يشهد سوق الملابس المستعملة (البالة) في دمشق حالة متزايدة من الارتباك منذ عدة أشهر، على خلفية فرض رسوم جمركية جديدة على إدخال هذه البضائع إلى البلاد، ما وضع التجار أمام خيارات صعبة في سوق يعتمد أساسًا على الأسعار المنخفضة لتلبية احتياجات شرائح واسعة من السكان.
ومع تطبيق الرسوم الجديدة، لم يعد الجدل داخل السوق يدور حول إمكانية الاستمرار فحسب، بل حول الكيفية: الالتزام بالجمركة وتحميل كلفتها على أسعار القطع، أو اللجوء إلى التهريب كخيار أقل كلفة، رغم ما يحمله من مخاطر قانونية ومالية.
من تسهيلات مؤقتة إلى أعباء متزايدة
على الرغم من أن استيراد البالة كان خاضعًا للرسوم سابقًا، إلا أن المرحلة التي أعقبت سقوط النظام شهدت دخول هذه البضائع بسهولة نسبية، نتيجة غياب الرقابة، ما انعكس استقرارًا مؤقتًا في السوق من حيث توفر البضاعة والأسعار.
غير أن هذا الواقع تبدل قبل أشهر، مع إعادة فرض رسوم جمركية تراوحت بين 2 و4 دولارات على الكيلوغرام الواحد، لترتفع كلفة الطرد الواحد من نحو 150 دولارًا إلى أكثر من 250 دولارًا بعد الجمركة، علمًا أن وزن الطرد يتراوح بين 40 و80 كيلوغرامًا بحسب الحجم والنوع.
ويرى تجار أن هذه الرسوم تشكل عبئًا يفوق قدرة السوق، لا سيما أنهم كانوا يتوقعون تسهيلات أو رسومًا مخففة تتناسب مع الواقع الاقتصادي والمعيشي، بدل العودة إلى أعباء يعتبرونها مرتفعة.
سوق القنوات في واجهة الأزمة
مع بدء تطبيق الرسوم، بدأت آثار القرار تظهر بوضوح في أسواق البالة، ولا سيما في منطقة القنوات وسط دمشق، التي تُعد من أبرز مراكز بيع الملابس المستعملة. هناك، وجد التجار أنفسهم أمام قرار حاسم: إما رفع الأسعار لتعويض كلفة الجمركة، مع ما يعنيه ذلك من خسارة الزبائن، أو البحث عن طرق بديلة لإدخال البضائع بتكاليف أقل.
أحد تجار البالة في القنوات، فضّل عدم ذكر اسمه، قال إن إدخال البضائع بشكل قانوني قد يكلّف نحو 100 دولار كرسوم جمركية للطرد الواحد، عدا عن تكاليف النقل والمصاريف الأخرى، ما يفرض عليه رفع الأسعار ويؤدي إلى تراجع المبيعات.
وأضاف أن خيار التهريب، رغم مخاطره، يبقى أقل كلفة، موضحًا أن البضائع تأتي غالبًا من تركيا أو العراق، وتصل إلى الشمال السوري قبل نقلها إلى دمشق، بتكلفة لا تتجاوز 30 دولارًا للطرد الواحد، مقارنة بكلفة الجمركة المرتفعة.
ويرى عدد من التجار أن اللجوء إلى التهريب لا يعكس بالضرورة رغبة في مخالفة القانون، بل هو نتيجة مباشرة للرسوم المرتفعة، خاصة في ظل ضعف القدرة الشرائية لدى المستهلكين، حيث إن أي زيادة في الأسعار تنعكس فورًا على حجم المبيعات.
المستهلك يتحمل العبء
في المقابل، اختار بعض التجار الالتزام بالطرق القانونية، لكنهم وجدوا أنفسهم مجبرين على رفع الأسعار لتعويض التكاليف، ما انعكس بشكل مباشر على المستهلكين.
خلود عرابي، ربة منزل تعتمد على سوق البالة لتأمين احتياجات أسرتها، تقول إنها لاحظت ارتفاعًا ملحوظًا في الأسعار خلال الفترة الأخيرة. وأوضحت أن القطعة التي كانت تُباع بنحو 20 ألف ليرة سورية بات سعرها 40 ألفًا أو أكثر، ما جعلها تعيد التفكير في الشراء، رغم أن البالة كانت الخيار الأرخص بالنسبة لها.
التهريب… خيار محفوف بالمخاطر
حتى التجار الذين لجؤوا إلى التهريب لتقليل التكاليف، يواجهون ضغوطًا متزايدة. تاجر آخر في سوق القنوات أوضح أن التشديد على الطرق زاد من المخاطر، مشيرًا إلى أن بعض الشحنات أُعيدت من منتصف الطريق، وتكبد تجار خسائر نتيجة سلف دُفعت للمهربين دون وصول البضاعة.
وبحسب قوله، فإن كل شحنة تعود تعني خسارة جديدة، إلا أن التهريب، في بعض الأحيان، يبقى أقل كلفة من الجمركة. وطالب الحكومة بإعادة النظر في مستوى الرسوم، وفرض مبالغ رمزية لا تدفع التجار إلى رفع الأسعار أو اللجوء إلى الطرق غير القانونية.
بين خيارين مكلفين
يرى تجار في السوق أن المشكلة لا تكمن في مبدأ فرض الرسوم بحد ذاته، بل في وضعهم أمام خيارين كلاهما صعب: إما رفع الأسعار وتحميل المستهلك العبء، أو المخاطرة بالتهريب وما يرافقه من خسائر محتملة.
ويؤكد هؤلاء أن سوق البالة لم يعد مجرد نشاط تجاري، بل يشكل شبكة أمان اجتماعي تعتمد عليها آلاف الأسر، خاصة في ظل ضعف الدخل وارتفاع تكاليف المعيشة. ومع استمرار هذه المعادلة الصعبة، تتسع دائرة المتضررين لتشمل التجار، والعمال، والمستهلكين، ولا سيما النساء اللواتي يعتمدن على هذا السوق لتأمين احتياجات أسرهن، في بلد لم يتعافَ بعد من آثار أكثر من 14 عامًا من الحرب والأزمات الاقتصادية المتلاحقة.