أزمة الأمن الغذائي في سوريا: الزراعة بين التراجع والحلول المؤجّلة

في ظل موجة الارتفاع المتسارعة لأسعار المنتجات الزراعية في سوريا، يعود هاجس الأمن الغذائي إلى الواجهة من جديد، وسط تحذيرات جدّية يطلقها خبراء الزراعة والاقتصاد من أن استمرار النهج الحالي قد يقود البلاد مجددًا نحو دائرة الخطر الغذائي. فالسوق السورية تشهد عودة الأسعار إلى مستوياتها “القاهرة للمستهلك”، ما يعكس مشكلة عميقة في بنية قطاع يفترض أن يشكّل حجر الأساس في الاستقرار المعيشي.

ورغم التوقعات بأن تمنح الإدارة الجديدة الزراعة أولوية قصوى كونها “حامل الأمن الغذائي”، بدت بوصلتها متجهة نحو دعم بيئات اقتصادية ريعية على حساب الإنتاج الزراعي والصناعات المرتبطة به، وهو ما أثار تساؤلات حول أسباب تراجع الاهتمام بقطاع كان يوظّف نسبة كبيرة من اليد العاملة السورية ويضمن الاكتفاء الذاتي لعقود.

من الليبرالية المرتجلة إلى التقهقر السريع

يستعيد اقتصاديون ومسؤولون سابقون محطات مفصلية ساهمت في ضرب القطاع الزراعي خلال العقدين الأخيرين، بدءًا بمرحلة ما بعد عام 2005 حين بدأت السياسات الحكومية تتّجه نحو تبني نموذج ليبرالي “غير مكتمل” تحت عنوان “اقتصاد السوق الاجتماعي”، رغم غياب الفهم الحقيقي لمقتضيات هذا التحول وتعقيداته.

تلك المرحلة حملت معها ما يشبه “إقصاء معلن” للفلاح، عبر تحرير أسعار حوامل الطاقة والأسمدة والمبيدات، ما أدى إلى تقلّص المساحات المزروعة إلى النصف خلال موسم واحد. وترافقت الخطوات مع صراع داخل الحكومة بين فريق مؤيد للوصفات الليبرالية وفريق آخر أكثر تحفظاً، قبل أن يترسخ النهج الذي اعتبره كثيرون منفصلاً عن الواقع الزراعي السوري.

ومع بدء سنوات الحرب، تفاقم التراجع الحاد لمساهمة الزراعة في الناتج المحلي، فبعد أن وصلت إلى 35% عام 2005، هبطت إلى أقل من 17% عام 2010، لتتعمّق الفجوة لاحقاً بفعل انقطاع موارد الطاقة واستيراد معظم المنتجات الأساسية بما فيها القمح والبطاطا والبصل.

“اقتصاد معرفة” فوق رماد الحقول

في ذروة شكاوى الفلاحين من نقص الأسمدة والبذار والوقود، كانت اجتماعات في “قاعة السياسات” الحكومية تناقش طروحات تتعلق بـ”اقتصاد المعرفة” والبرمجيات والتكنولوجيا الذكية، في مشهد بدا منفصلاً عن واقع آلاف الأسر في الأرياف التي فقدت مواردها بفعل غياب الوقود وتراجع الدعم. وبينما حاولت الحكومة تقديم هذا التحول كخطوة نحو المستقبل، كان الواقع يقول إن غياب الوقود يعني شلل الزراعة وانهيار سبل عيش مئات الآلاف من العائلات.

الفساد.. القشة التي أنهكت القطاع

لا يقتصر تراجع الزراعة على السياسات الاقتصادية فحسب، بل لعب الفساد دوراً حاسماً في تعطيل دعم الفلاحين. ويكشف أحد المسؤولين الزراعيين حادثة في ريف حماة حين اكتُشف أن لجاناً محلية كانت تستولي على مازوت الري المخصص للأهالي، ما يعكس حجم الإشكال في سلسلة توزيع المستلزمات الزراعية، من وقود وأسمدة وأعلاف ولقاحات، وصولاً إلى توسع السوق السوداء التي ابتلعت الدعم الحكومي.

ما الذي يمكن فعله؟

يرى الخبير الاقتصادي فادي عياش أن تعافي الزراعة لا يمكن أن يتم إلا عبر معالجة شاملة تشمل مدخلات الإنتاج ومخرجاته، مؤكدًا أن القطاع الزراعي كان ولا يزال قادرًا على قيادة عملية التعافي الاقتصادي لو أُدير وفق رؤية واقعية.

أبرز مقترحات عياش:

1. الزراعات التعاقدية والاعتماد على التقنيات الحديثة

يدعو عياش إلى اعتماد الزراعات التعاقدية لضمان استقرار الإنتاج وتقليل المخاطر، إلى جانب استخدام تقنيات متطورة لتحسين اختيار الأصناف الزراعية، ورفع الإنتاجية، وترشيد استخدام المياه.

2. تنظيم النشاط الزراعي عبر شركات مساهمة

يرى أن صغر الحيازات وتشتت الملكيات يعيق التطوير، ما يستدعي تأسيس شركات زراعية مساهمة تتكفل بالتخطيط، التمويل، وتطوير الإنتاج.

3. تحويل الدعم من المدخلات إلى المخرجات

يقترح نقل الدعم الحكومي من مستلزمات الإنتاج إلى المحاصيل النهائية، خصوصاً الاستراتيجية والموجّه للتصدير، لضمان وصول الدعم لمستحقيه وكبح الفساد المنتشر في حلقات التوزيع.

4. تمكين الصناعات الزراعية التحويلية

فالمسار التصنيعي، وفق عياش، هو الطريق الأمثل لزيادة القيمة المضافة وتعزيز القدرة التنافسية. ويشمل ذلك الصناعات المتعلقة بالبذار والأسمدة والمكننة الزراعية، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية والنسيجية، والتوضيب والتبريد واعتماد “العلامة التجارية الجغرافية” في التصدير.

مقومات موجودة.. وإدارة غائبة

تملك سوريا تنوعاً زراعياً ومناخياً يؤهلها لسد احتياجات عشرات الملايين، إلا أن الاستثمار الأمثل لهذه المقومات يحتاج إلى إدارة تستدرك الأخطاء الماضية وتعيد ترتيب أولويات التنمية، بوضع الزراعة في موقعها الطبيعي كقاطرة الإنتاج لا ملحقاً ثانوياً للسياسات الريعية.

ومتى تحققت هذه الرؤية، قد يصبح الحديث عن الجوع في سوريا جزءاً من الماضي، ويعود القطاع الزراعي من جديد ركناً أساسياً في الاقتصاد وضمانةً للاستقرار الاجتماعي والمعيشي.

اقرأ أيضاً:خطة حكومية لزراعة 1.4 مليون غرسة لإحياء الغابات المتضررة

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.