أزمة بنوك الدم في دمشق.. سباق مع الوقت بين نقص المتبرعين وتحديات النظام الصحي
تتجمع على أبواب بنوك الدم في دمشق وريفها قصص ومعاناة لا تهدأ، إذ يواصل الأهالي رحلة البحث عن متبرعين لإنقاذ أحبّتهم ضمن الآلية الرسمية التي تربط تأمين كل كيس دم بتوفير متبرع مقابله. ورغم أن المدن الكبرى مثل دمشق تحظى باستثناءات محدودة، يبقى الضغط على العائلات كبيرًا في ظل سباق مع الوقت تزيده صعوبة الإجراءات البيروقراطية وضعف الإمكانات الطبية.
المشهد العام يتكرر في معظم المراكز الحكومية: نقص في الكوادر، أجهزة متهالكة، وازدحام على النوافذ التي تُسلّم فيها الاستمارات والتحاليل. وفي الخلفية، تنتشر أحاديث خافتة عن لجوء البعض إلى وسطاء يطلبون مبالغ مالية مقابل تأمين متبرعين، ما يفتح بابًا غير معلن لتجارة قائمة على الحاجة والضيق.
من بين تلك القصص، يبرز ما عاشه جابر شدود (أبو وائل) في ممرات مشفى المواساة، حين حاول تأمين زمرة O- النادرة لابنه الذي خضع لعملية جراحية طارئة. نجح بمساعدة أحد الأصدقاء في إيجاد متبرع، وتمسّك بكيس الدم كما لو أنه فرصة إنقاذ مؤكدة. لكن انتظار الساعات الطويلة انتهى بتلقيه ورقة الوفاة، ليغدو ما جرى مثالًا مريرًا على أن وجود الدم لا يعني دائمًا النجاة.
وفي حادثة أخرى، تنقّل حسن الباشا لأيام بين المشافي بحثًا عن ثلاثة متبرعين لزوجته التي تعرضت لنزيف حاد بعد الولادة. ورغم أن زمرة A+ شائعة، فإن شرط توفير ثلاثة متبرعين بدا مستحيلاً لرجل يعمل بالأجر اليومي. وبعد محاولات لم تُجدِ، اضطر للتعامل مع وسيط مقابل مبلغ يعادل راتب شهر، ما دفعه لبيع هاتفيه. تم إنقاذ زوجته في نهاية المطاف، لكنه خرج بشعور أن الدم تحوّل إلى سلعة، وأن الفقر يرفع خطر الموت أكثر من المرض نفسه.
أما في دمشق، فحملت أم طفلها بين مشفيين بحثًا عن زمرة AB+ النادرة، قبل أن تلجأ إلى مجموعات التواصل الاجتماعي حيث نشرت مناشدة عاجلة. وبعد وعود كثيرة، لبّى شاب من قدسيا النداء، لتظل الأم تردد لاحقًا أن إنقاذ حياة طفلها كان رهين شخص غريب، لا بنية صحية قادرة.
نقص تاريخي في المتبرعين وتراجع بعد إلغاء التبرع الإلزامي
مصدر طبي من دمشق أوضح لـ”العربي الجديد” أن أزمة بنوك الدم ليست جديدة، وأن سنوات ما قبل سقوط النظام لم تشهد فائضًا حقيقيًا رغم تسجيل 500 إلى 700 متبرع يوميًا. وأكد أن الوضع اليوم أكثر حساسية بعد إلغاء التبرع الإلزامي للطلاب والعسكريين والموظفين، وهم الفئات التي كانت تشكل العمود الأساسي للمخزون.
بدوره، أشار الدكتور مصطفى الجازي، مدير بنك الدم في دمشق، إلى أن المؤسسة تعمل على تنفيذ سلسلة إجراءات تطويرية بعد صدور مرسوم إحداثها، تشمل توحيد آليات نقل الدم وتحديث الأنظمة الرقمية وتحسين تقنيات التتبع، بالتعاون مع منظمات محلية ودولية، بينها منظمة “وطن” التي باتت تدير شبكة تضم 36 بنك دم في مختلف المناطق.
وأوضح الجازي أن العمل جارٍ لإعادة تفعيل بنوك الدم المتوقفة، لاسيما في البوكمال والميادين وتدمر، مشيرًا إلى أن الزمر السلبية مثل O- وAB- تبقى نادرة عالميًا ويزداد نقصها خلال الطوارئ. كما تحدث عن نقص حاد في الكوادر المتخصصة، واعتماد أجهزة قديمة لم تُحدث منذ سنوات، ما يزيد الضغط على الخدمات المخبرية ويؤخر الإجراءات.
وأشار إلى أن أسعار أكياس الدم لم تتغير منذ ما قبل سقوط الحكومة السابقة، وأن الرسوم المفروضة تغطي فقط التكاليف اللوجستية والفحوص، مع الإبقاء على مبلغ 200 ألف ليرة يُدفع من قبل المشافي الخاصة مقابل كل وحدة دم. وتعمل المؤسسة على طرح مناقصات جديدة لضمان توفر الأكياس الفارغة، تزامنًا مع إطلاق حملات لتشجيع التبرع الطوعي.
تحول رقمي واتفاقيات محتملة لتأمين الزمر النادرة
ضمن خطط التحديث، تعمل المؤسسة على إنشاء قاعدة بيانات إلكترونية للمتبرعين، بهدف الوصول السريع إلى أصحاب الزمر النادرة وتسهيل التواصل معهم. كما يجري بحث اتفاقيات تعاون إقليمية لتأمين بعض الزمر النادرة من دول الجوار، خصوصًا بعد عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.
أزمة تتجاوز حدود الصحة
تبقى أزمة بنوك الدم في دمشق انعكاسًا لمشكلات أوسع في البنية الصحية والاقتصادية والاجتماعية. فقصص الأهالي الباحثين عن فرصة إنقاذ قريب تُظهر أن الوصول إلى الدم لا يزال مرهونًا بالحظ والقدرة المالية والجهد الشخصي، في وقت تعمل فيه المؤسسات الصحية على تحديث بنيتها وتحسين خدماتها.
وبين الحاجة الملحّة وإجراءات التطوير، تظل حياة الكثيرين معلّقة بين الانتظار، وبين ضرورة بناء منظومة صحية أكثر عدلاً تضمن أن يكون الدم متاحًا للجميع، لا لمن يمتلك المال أو شبكة العلاقات، بل لكل من يقف على أبواب بنوك الدم باحثًا عن أمل في النجاة.
اقرأ أيضاً:أزمة حادة في مشافي الأمراض النفسية بسوريا: نقص الأخصائيين وتزايد مرضى الفصام