تعيش محافظة السويداء اليوم واحدة من أكثر مراحلها قسوة منذ بداية الحرب السورية، إذ تتفاقم الأوضاع المعيشية والإنسانية بوتيرة متسارعة مع اقتراب فصل الشتاء. فبين أزمة الخبز، ونقص الوقود، وانقطاع الكهرباء، يجد الأهالي أنفسهم أمام شتاءٍ يهدد تفاصيل حياتهم اليومية في ظل غياب خطط واضحة من الجهات المعنية أو منظمات الإغاثة لتخفيف معاناتهم.
وفي هذا السياق، تنقل شبكة “داما بوست” شهادات من داخل المحافظة توثّق عمق الأزمة، من خلال رواياتٍ تقدّم صورةً واقعية عن حجم التحديات التي يواجهها السكان مع اشتداد البرد وانهيار الخدمات الأساسية.
محروقات نادرة، طوابير خبز طويلة:
قال الناشط السياسي من محافظة السويداء طارق عبد الحي في حديثه لـ”داما بوست” إنّ “الأزمة الحقيقية في السويداء لم تبدأ بعد، وستظهر بشكل واضح مع حلول فصل الشتاء”، موضحًا أن “الناس استطاعت تدبير أمورها خلال الفترة الماضية لأسباب عديدة، منها الطقس المعتدل وإمكانية البقاء في أي مكان، لكن الوضع الآن يتجه نحو التعقيد، خاصة مع النقص الحاد في المساكن ووسائل التدفئة”.
وأضاف عبد الحي أنّ “أزمة المحروقات ليست جديدة على السويداء، فمنذ سنوات كانت الأسر تحصل على خمسين لترًا من المازوت كل سنة مرتين تقريبًا، وأحيانًا مرة واحدة بأسعار حكومية”، مشيرًا إلى أنّ “السوق السوداء لعبت دائمًا دورًا موازيًا، إذ نشأت في سوريا خلال الخمسة عشر عامًا الماضية سوق سوداء منظمة إلى حدٍّ كبير، والآن بعد تجاوز صدمة الاجتياح والتهجير، بدأت هذه الاسواق تستعيد نشاطها وتوفّر المحروقات للتدفئة والمركبات، وإن كانت بأسعار مرتفعة جدًا”.
وتابع أنّه “لا توجد أي خطة واضحة حتى الآن لحماية السكان من برد الشتاء أو لتأمين احتياجاتهم الأساسية”، لافتًا إلى أنّ “الأزمة الغذائية مستمرة، ومشكلة الخبز تبقى الأبرز لأنها تمسّ كل بيت، فالخبز هو المصدر الغذائي الأساسي لأهالي السويداء، إلا أنّ هذه الأزمة قد تصبح أقل خطورة مقارنة بما ينتظر الناس في الشتاء”.
من جانبها قالت الصحفية لبانا عزام – ابنة محافظة السويداء – إنّ “الوضع الإنساني في السويداء مأساوي بكل المقاييس، سواء من ناحية تأمين المواد الأساسية أو مقومات الحياة اليومية”، مشيرة إلى أنّ “المحافظة تُمدّ بمادة الطحين من قبل المنظمات الإنسانية والأممية بكميات لا تكفي سوى لأيام قليلة، ما يؤدي إلى انقطاع الطحين لفترات تمتد ليومين أو أكثر إلى أن تصل دفعة جديدة”.
وأضافت عزام لـ”داما بوست” أنّه “خلال فترات الانقطاع، تضطر الفئة القادرة ماليًا إلى شراء السمّون، بينما الفئة الأخرى التي تملك كمية محدودة من الطحين تحاول أن تخبز بنفسها، في حين تبقى فئات واسعة من الأهالي بلا خبز”. وأوضحت أنّه “عندما تعود الأفران إلى العمل، تشهد طوابير الخبز ازدحامًا هائلًا يمتد لمسافات طويلة تصل إلى الكيلومترات”، لافتة إلى أنّها شاهدت بنفسها “ثلاثة شبان في العشرينات من عمرهم نائمين على الرصيف قرب أحد الأفران عند الساعة الرابعة فجرًا حتى يتمكنوا من الحصول على دور مبكر”.
وتابعت عزام أنّ “الوضع الكهربائي لا يقل سوءًا، إذ يُطبّق تقنين قاسٍ بمعدل خمس ساعات ونصف قطع مقابل نصف ساعة وصل فقط”، مضيفة أنّ “السويداء تُغذّى بالكهرباء من خط 66 ك.ف، وهو خط احتياطي وليس رئيسيًا، ويتعرض باستمرار للتخريب والأعطال، ما يؤدي إلى انقطاع التيار أحيانًا لأيام متواصلة”.
مدارس مهددة بالتعطيل والأهالي يواجهون البرد والعطش:
خلال جلسة عمل عُقدت يوم الثلاثاء 7 تشرين الأول، خُصصت لمناقشة آليات تسريع وتيرة العمل الإغاثي والخدمي في المحافظة، وفق ما نشرته محافظة السويداء عبر معرفاتها الرسمية. قال محافظ السويداء مصطفى البكور إنّ “تقديم التسهيلات اللازمة لعمل المنظمات الدولية والإنسانية يُعدّ أولوية قصوى للمحافظة، كونها شريكاً أساسياً في تخفيف المعاناة عن أبناء السويداء”.
وأوضح المحافظ أنّه تمّ وضع خطة واضحة للمشاريع العاجلة التي تحتاجها المحافظة، وفي مقدمتها معالجة أزمتي المياه والخبز باعتبارهما “الأكثر إلحاحاً”، مشيراً إلى أنّ الجهود ستُركّز على هذين الملفين خلال المرحلة المقبلة.
وأضاف أنّ هذه الخطوات تأتي في إطار حرص المحافظة على “تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية والإنسانية وتفعيل الاستجابة السريعة للاحتياجات الملحّة، بما ينعكس إيجاباً على الواقع المعيشي والخدمي في السويداء”.
وفي السياق ذاته، أعلن “الهلال الأحمر السوري” عبر معرفاته الرسمية يوم الاثنين 6 تشرين الأول، عن إيصال قافلة مساعدات إلى محافظة السويداء تضم أكثر من 250 طناً من مادة الطحين، بدعم من “برنامج الأغذية العالمي” وجمعية “بلاد ما بين النهرين”.
وأوضح الهلال الأحمر أنّ “القافلة وُجهت لتأمين احتياجات أفران السويداء، شهبا، عتيل، قنوات، القريا، وصلخد، بهدف توفير مادة الخبز للأهالي المتضررين جراء الأحداث الأخيرة في المحافظة”.
في هذا السياق أوضح الناشط السياسي عبد الحي أنّ “تأمين الطحين يواجه صعوبات مستمرة بسبب نقص المخصصات القادمة من دمشق، وتأخر وصول الدعم، إذ تعتمد المحافظة حاليًا على مساعدات إنسانية ودعم من المغتربين والمنظمات المدنية المحلية”، مؤكدًا أنّ “الكهرباء لا يمكن أن تشكّل بديلاً في التدفئة أو الحياة اليومية، إذ لا تصل إلا نصف ساعة مقابل خمس ساعات أو أكثر من الانقطاع، وهي فترة لا تكفي لتشغيل أي جهاز منزلي أو لتلبية أبسط الاحتياجات”.
وأشار إلى أنّ “الوضع الدوائي مقبول حتى الآن، وهناك قدرة نسبية على تأمين المستلزمات الصحية”، لكنه حذّر من أنّ “المشاكل الكبرى ستظهر مع انخفاض درجات الحرارة في الشهر القادم، حيث سيزداد الضغط على الأسر من ناحية التدفئة والسكن والتعليم”.
وختم عبد الحي حديثه بالقول إنّ “المدارس قد تشهد تعطيلًا قسريًا خلال الشتاء، خاصة للمرحلتين الابتدائية والإعدادية، بسبب البرد وصعوبة التنقل، ما سيضطر الكثير من الأطفال للبقاء في أماكن سكنهم أو اللجوء إلى حلول بديلة”، معتبرًا أنّ “الفترة المقبلة ستكون الأصعب على أهالي السويداء منذ بدء الأزمة”.
وحذّرت الصحفية عزام من أنّ “انعكاس هذه الأوضاع على الحياة في فصل الشتاء سيكون كارثيًا، خصوصًا أن آلاف النازحين يعيشون في ظروف صعبة بعد أن خرجوا من منازلهم دون امتلاكهم ملابس شتوية مناسبة”. وأضافت أنّ “الوقوف في طوابير الخبز خلال البرد القارس سيكون أكثر مشقة، خاصة مع النقص الحاد في المحروقات التي تصل للمحافظة بكميات محدودة جدًا تُخصّص للأفران والمستشفيات والدوائر الحكومية، ثم محطات الوقود”.
وبيّنت عزام أنّ “شحّ المحروقات أثر أيضًا على ضخ المياه، إذ لا يتوفر المازوت الكافي لتشغيل المضخات، مما يجعل مياه البلدية تصل إلى بعض الأحياء كل 15 يومًا فقط، بينما تضطر بقية المناطق إلى شراء صهاريج المياه بأسعار مرتفعة لتلبية حاجاتها اليومية”.
وأشارت إلى أنّ “هذه الأوضاع تتزامن مع انعدام شبه تام للرواتب أو الدخل، ما يعني ببساطة أن الشتاء في السويداء سيكون بلا كهرباء ولا مازوت”. وتابعت أنّ “الكثير من النازحين يعيشون اليوم في بيوت غير مجهزة، بعضها خالٍ من الأثاث أو حتى البطانيات”، مضيفة أنّه “في ظل غياب الغسالات والمياه الساخنة، سيواجه الناس صعوبة في غسل الملابس، ما قد يؤدي إلى انتشار الأمراض، خاصة في الطقس البارد المعروف به مناخ السويداء”.
وختمت عزام حديثها بالقول إنّ “عددًا كبيرًا من سكان السويداء فقدوا أعمالهم ومصادر دخلهم، وسوق العمل متوقف تمامًا، فيما يشهد قطاع التعليم انهيارًا شبه كامل بعد توقف المدارس، نتيجة عجز المعلمين عن الذهاب إلى أماكن عملهم بسبب عدم حصولهم على رواتب وعدم قدرتهم على دفع أجور المواصلات، وخصوصًا أولئك المعيّنين في مناطق بعيدة”.
بين تحذيرات الناشطين وتوثيقات الصحفيين، تبدو السويداء مقبلة على شتاء قاسٍ بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث لا كهرباء ولا محروقات ولا دخل يقي الناس برد الجبال. وسط هذه الظروف، تتلاشى الفروق بين نازحٍ ومقيم، فالجميع يواجه العجز ذاته أمام طوابير الخبز والظلام والماء البارد. ومع غياب أي بوادر حلّ قريب، تبقى السويداء نموذجًا مؤلمًا أمام صراع البرد والجوع مقابل الإصرار على البقاء والحياة.
إقرأ أيضاً: خطف عائلة في السويداء على يد “الشيخ أبو علي” يثير غضب السوريين
إقرأ أيضاً: مقتل مدنيين وإصابة 7 في استهداف حافلة على طريق دمشق – السويداء