لا شيء صدفة، ولا فعل يبقى دون ردة فعل، حقيقة يعلمها الأمريكيون جيداً، ويدركون أكثر أن كل نزاع يعملون على إشعال فتيله سيكون له تداعيات جانبية، لا بد وأن يكون بعض من نتائجها سلباً عليهم، لكنهم حتى اللحظة يتعاملون بتعالٍ منقطع النظير، معتقدين أن كل أوراق اللعبة في سورية وغيرها ما زالت بأيديهم، وفي الحقيقة تتفهم الأطراف المناوئة للولايات المتحدة عدم قدرتها على التخلص من “العنجهية” بسهولة، لكنها مع الوقت ستجيد التعاطي بشكل أفضل مع واقعية الأمور.
ويعتقد الأمريكيون أن لديهم القدرة على تحريك الملفات في سورية كيفما تشاء مصلحة الإدارة الأمريكية، دون انعكاسات أو ردود تضر بمصالحهم، رغم رسائل النار التي وصلتهم على شكل صواريخ وقذائف استهدافت قواعدهم مؤخراً ردا على إطلاقهم قطعان داعش من “التنف” لتنفيذ عمليات “منفردة” ضد الجيش العربي السوري، إلا أن استمرار الاحتلال بممارساته العدائية ينذر بتطورات وتداعيات أكثر خطورة.
وفي تحرك كان متوقعاً، اشتعل الجنوب السوري فجأة، ولا نتحدث هنا عن احتجاجات المطالب المعيشية، بل عن احتجاجات المطالب السياسية المنسجمة مع التطلعات الأمريكية، بفرض القرار 2254 وفق ما يريده الغرب لا كما يريده السوريون، وتطبيع الفعاليات الاحتجاجية بمظاهر منسجمة مع تلك التي تحصل في المناطق المحتلة، حيث يرفع المشاركون فيها أعلاماً غير شرعية، ويحملون فيها أجهزة اتصالٍ لا تعمل على الشبكة الوطنية، وتطلق فيها شعارات أو وسوماً ذات أبعاد طائفية ومناطقية، وتتزامن مع عمليات قطع للطرقات باعتداء فاضح على حق الناس بالتنقل الآمن، وإغلاق لمؤسسات عنوة وتحت سطوة التهديد، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل اتجهت نحو ترويج مطالب لـ “فدرلة” السويداء، ومنحها حكماً ذاتياً على شاكلة المشروع الذي فرضه الاحتلال الأمريكي شمال شرق سورية.
ورفض المشروع عقلاء السويداء، وصدرت العديد من الأصوات التي نبهت وحذرت من الانخراط في تحركات أو خطوات من شأنها تأجيج الأوضاع داخلياً، وهي أصوات تقطع الطريق على أدوات المشروع، ولا نلمح هنا إلى الناس المندفعة للمطالبة بحقوقها المعيشية، بل إلى الذين ينتفعون من أي حالة فوضى، سواء لضرب مكونات ببعضها، أو لتأزيم المشهد في الجنوب السوري، وبعيداً عن حالة الاحتجاجات والمطالب، يمكن القول إن أي حالة فوضى جديدة في الجنوب لن تكون في مصلحة سوى الأطراف الرافضة لعودة العلاقات العربية السورية وما يترتب عليها من تعاون اقتصادي، أو للجهات التي تحاول الضغط على الأردن لتأليب الحالة العربية ضد سورية، عوضاً عن الدفع بتلك العلاقات نحو الاستقرار، ولنا في دعوات أمريكية فاضحة للأردن للانخراط في مشروع بطابع عسكري جديد ضد سورية خير مثال على ذلك.
كل ذلك، حصل وليس فجأة، مع تطورات أمنية واجتماعية خطيرة في الشرق والشمال الشرقي، تمثلت بتحركات للمقاومة الشعبية في مناطق سيطرة ميليشيا “قسد” أوصلت من خلالها العلم السوري كرمز وطني إلى داخل مقرات تابعة للميليشيا الموالية للاحتلال الأمريكي، وألصقته على جدران العديد من الشوارع، مذكرة الاحتلال وميليشياته أن هذه الأرض لأصحابها.
وفي ذات الوقت، قررت “قسد” التخلص من مناوئيها في الجزيرة السورية، للاستفراد في مصادر الثروة ومنع وجود ذراع عسكري عربي داخل تشكيلها، قادر على التواصل مع التحالف الأميركي المزعوم والتنسيق معه، بما لا يخدم مصلحة الفصائل الكردية، وعليه أطلقت الميليشيا عملية عسكية تحت ذريعة تعزيز الأمن ضد داعش، بينما كان المستهدف مجلس دير الزور العسكري، بما ينضوي تحته من عشائر، أي أن “قسد” لم تتردد في وسم المكون العربي في تلك المنطقة بـ “داعش” وهو موقف لن يقبل به سكان الجزيرة، بل على العكس.
وعقب انطلاقة العملية تزامناً مع كمين غادر استهدف قيادات المجلس، وأودى بالعشرات منهم إلى المعتقل، اندلعت ثورة أبناء العشائر ضد “قسد” أو ما صارت تسمى “داعش الصفراء” وبدأت المواجهات تتمدد في قرى شمال دير الزور، وسط معلومات عن توحد الموقف العشائري ضد “قسد” خلافاً لم يتم الترويج إليه عبر صفحات وقنوات تعمل تحت إمرة الميليشيا والاحتلال الأمريكي.
وبكل الأحوال، وحتى ولو لم يكن الموقف العشائري داعماً لقضية حل مجلس دير الزور العسكري، فالسبب يعود إلى سوء زعامة المجلس في تعاملها مع أبناء المكون العربي وأخطائها بحقهم، لكنه بالتأكيد لن يكون في صالح “قسد” لو مهما حاولت الميليشيا فرض سيطرتها وسطوتها على مناطق وقرى دير الزور، وبالتالي فإن خسارة الميليشيا للموقف العشائري، لا بد وأن يزيد من حالة التوتر والصراع في المنطقة الشرقية، خصوصاً وأن سكانها لن يقبلوا بممارسات ميليشيا الاحتلال وعمليات التجنيد القسري، أو حتى فرض المناهج “الكردية” عنوة على المدارس، وبالتالي فإن بؤرة نزاع جديدة انفجرت في وجه الاحتلال وأعوانه.
وعليه يؤكد مراقبون على المؤكد بالنسبة للسوريين، أن الرهان على المكونات لو مهما بلغ حجم الاستثمار فيها رهان خاسر أو طال زمنه، وللأمريكيين وغيرهم عبرة من 13 عاماً من محاولات تطويع فئات وجماعات ومدن بكاملها، بعضها نجح بسطوة السلاح والإرهاب والإعلام، وبعضها الآخر انهار وفشل في تحقيق أي إنجاز، فالمصالح تتبدل، والاختراقات قائمة، والحذر واجب.