أثار مرسوم تأسيس “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، الصادر عن رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع في 17 أيار الجاري، جدلاً واسعاً في الأوساط السورية، بين من رحب بالخطوة واعتبرها بداية ضرورية نحو المساءلة، وبين من رأى فيها محاولة لفرض “عدالة انتقائية”، كونها تقتصر في مهامها على الجرائم المرتكبة من قبل النظام السابق فقط، دون الإشارة إلى انتهاكات أخرى حدثت خلال الصراع.
وبحسب نص المرسوم، فإن الهيئة تعنى “بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام السابق، ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية”، إضافة إلى “جبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار وتعزيز المصالحة الوطنية”.
ونص المرسوم على تعيين عبد الباسط عبد اللطيف رئيساً للهيئة، وتكليفه بتشكيل فريق العمل وإعداد النظام الداخلي لها خلال مدة لا تتجاوز 30 يوماً.
كما أُعلن رئيس المرحلة الانتقالية عن تشكيل “الهيئة الوطنية للمفقودين” بموجب مرسوم منفصل، لمعالجة قضية المفقودين والمختفين قسرًا، وهي إحدى أبرز القضايا الإنسانية في سوريا.
ويأتي إنشاء الهيئة في وقت لا تزال فيه الدعوات المحلية والدولية تؤكد على ضرورة تطبيق عدالة انتقالية شاملة وغير انتقائية، تُجنّب البلاد خطر التصعيد أو أعمال الانتقام، وتمنع استغلال الملف من قبل جهات متطرفة أو فئات متضررة، خصوصاً في ظل التوترات المتجذّرة التي خلّفتها سنوات الحرب الأربع عشرة.
ويرى كثير من السوريين أن اقتصار اختصاص الهيئة على الجرائم التي ارتكبها النظام السابق، رغم فظاعتها، يُغفل الجرائم التي ارتكبتها أطراف أخرى، لا سيما التنظيمات المسلحة المصنفة إرهابية، ما يمنحها عملياً حصانة من المحاسبة، باعتبار أن المرسوم لم يأتِ على ذكرها أو يضعها ضمن نطاق عمل الهيئة، وكأن هذه الانتهاكات لم تقع.
المجلس العلوي الأعلى يطالب بعدالة تشمل الجميع
إلى ذلك أكدت لجنة التنسيق والعلاقات العامة في المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر رفضها الكامل للأسس التي شُكّلت بموجبها هيئة العدالة الانتقالية، معتبرة أن سلطة الأمر الواقع لا تمتلك الشرعية القانونية لتشكيل هيئات ذات طابع قضائي أو إصدار تشريعات.
وانتقدت اللجنة بشدة اقتصار اختصاص الهيئة على التحقيق في انتهاكات النظام السابق، معتبرة أن ذلك يُغفل الجرائم التي ارتكبتها فصائل المعارضة، خصوصاً تلك التي استهدفت الأقليات السورية كالعلويين والدروز بعد سقوط النظام، مما يطعن في حيادية الهيئة ويُضعف من مصداقيتها. وأشارت إلى أن “العدالة الانتقالية لا تُبنى على أساس انتقائي، بل على شمولية المحاسبة لجميع الأطراف وفق معايير متوازنة وشفافة”.
العفو الدولية: جميع أطرف الحرب ارتكبوا جرائم
وقد وثقت منظمة العفو الدولية من عام 2011 إلى عام 2024، ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، من قبل جميع الأطراف المتصارعة في سوريا، منها حكومة الرئيس السابق بشَّار الأسد وحلفائها وكذلك الجماعات المسلحة المعارضة للحكومة وحليفتهم تركيا، وسلطات الأمر الواقع بقيادة الأكراد والقوى المتحالفة معهم.
وأضافت المنظمة أنها وثّقت “انتهاكات ممنهجة، بما في ذلك الاعتقال التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري، ارتكبها ضباط إنفاذ القانون السابقون وأجهزة الاستخبارات، وداخل نظام السجون. وبالإضافة إلى ذلك، وثقت المنظمة عمليات اختطاف وتعذيب وقتل بإجراءات موجزة على أيدي جماعات مسلحة سابقة غير حكومية، بعضها مدمج الآن في وزارتي الدفاع والداخلية”.
ودعت المنظمة الحكومة السورية الانتقالية إلى اتخاذ خطوات فورية وملموسة لتحقيق العدالة ومعالجة إرث البلاد المدمر من الانتهاكات، وتطبيق إصلاحات عاجلة تستند إلى مبادئ حقوق الإنسان لمنع وقوع المزيد من الانتهاكات.
رايتس ووتش: هيئة العدالة الانتقالية محدودة الصلاحية وتقصي العديد من الضحايا
أكدت منظمة هيومين رايتس ووتش أن الصلاحية المحدودة لهيئة العدالة الانتقالية السورية تقوض مصداقيتها وتقصي العديد من الضحايا، داعيةً الحكومة السورية الانتقالية لضمان أن يكون للناجين والمجتمعات المتضررة دور محوري في تشكيل عملية العدالة الانتقالية.
وأشارت إلى أن إنشاء هيئة العدالة اقتصر على الجرائم التي ارتكبها النظام السوري السابق فقط مستثنياً ضحايا الانتهاكات التي ارتكبتها الجهات غير الحكومية، مؤكدةً أن الفظائع الأخيرة وتصاعد الخطاب الطائفي يؤكدان على الحاجة الملحة إلى عملية عدالة انتقالية شاملة عملية لجميع السوريين وليس لبعضهم فقط.
ولفتت إلى أن الحكومة السورية الانتقالية تقف الآن عند مفترق طرق إما أن تتبنى عملية حقيقية تركز على الضحايا وتقر بحقوق جميع الناجين أو تديم الإقصاء وتعمّق الانقسامات.
لماذا يجب محاسبة جميع الأطراف؟
نعود بالذاكرة إلى بداية الحرب السورية، لنجد أن أطراف النزاع ارتكبت انتهاكات جسيمة بحق المدنيين بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم، وفق تقارير موثقة من منظمات حقوقية وإنسانية عالمية، لذلك يفترض أن تكون العدالة انتقالية وليست انتقائية أو انتقامية.
السوريون بأغلبيتهم العظمى تضرروا من الحرب التي لم يكن لهم بها “لا ناقة ولا جمل” بعضهم من خسر أفراداً من عائلته وبعضهم من خسر ممتلكاته، وبعضهم الآخر خسر الاثنين معاً.
أما اليوم فالبلاد أمام مرحلة انتقالية بتوافق دولي، أطاح بنظام بشار الأسد، وأحضر سلطة جديدة لتقود المرحلة الحالية، فيرى جميع السوريون أن من حقهم أن تُعيد الحكومة لهم حقوقهم.
فإما عدالةً تضع السوريين جميعاً في الكفة نفسها، وتطوي صفحة دموية شهدتها البلاد، وتبدأ بانتشال سوريا من بين الركام والدمار المجتمعي، أو عدالةً تزيد الانقسام انقساماً آخر!.