“قسد” و”الحرس الوطني”: تقاطع المصالح وحدود الجغرافية
بعد الحديث عن القوات التابعة للحكومة الانتقالية في سوريا والخلفية الأيديولوجية السلفية–الجهادية التي تهيمن على جزء من تشكيلاتها، وما يرافق ذلك من صعوبة اندماج القوى العسكرية السورية الأخرى معها أو قبول قطاعات واسعة من المجتمع السوري بها، ننتقل في هذا المقال إلى تناول التشكيلات العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، باعتبارها ثاني أكبر قوة منظمة على الأرض بعد قوات الحكومة الانتقالية، وإلى جانبها قوات الحرس الوطني في السويداء. ويستعرض المقال كذلك الشراكة المحتملة بين القوتين، انطلاقًا من التقارب الفكري بينهما، ووجود مصالح مشتركة، وصولًا إلى إمكانية التقاء هاتين القوتين جغرافيًا على الأرض في مرحلة لاحقة.
قسد: التمويل الأميركي والانتشار الواسع وبنية القوة العسكرية
تتلقى “قسد” تمويلًا مباشرًا من وزارة الدفاع الأميركية، التي تخصص سنويًا موازنة مستقلة لها. وقد كشف البنتاغون، ضمن مشروع موازنة عام 2026، عن تخصيص نحو 130 مليون دولار لـ”قسد” و”جيش سوريا الحرة”. ويضاف إلى ذلك مصدر تمويل داخلي مستمر ناتج عن العائدات النفطية، إذ تسيطر “قسد” على أكبر حقول النفط والغاز في سوريا. أمّا من ناحية التدريب، فيشرف الجيش الأميركي مباشرة على برامج التدريب والتأهيل، باعتبار “قسد” أحد الأعمدة المحلية الأساسية ضمن “التحالف الدولي” لمحاربة تنظيم داعش، وكونها القوة البرية التي خاضت عمليات ضد التنظيم بين عامي 2015 و2020.
تسيطر “قسد” على مساحة واسعة تمتد إلى نحو 28% من الجغرافيا السورية. ورغم أن مناطق نفوذها تُعرف إعلاميًا باسم “شمال شرق الفرات”، فإن السيطرة الفعلية أوسع من ذلك؛ إذ تشمل أجزاء كبيرة من محافظة دير الزور شمال وشرق الفرات، وتقريبًا كامل محافظتي الرقة والحسكة، إضافة إلى حيّي الأشرفية والشيخ مقصود في مدينة حلب، وكذلك منطقة عين العرب ذات الغالبية الكردية. هذا الانتشار الجغرافي الواسع منح “قسد” مركز ثقل سياسي وعسكري، خصوصًا في ظل غياب سلطة مركزية قوية في دمشق خلال سنوات الحرب.
وتُعد “قسد” ثاني أكبر قوة منظمة من حيث العدد بعد الجيش التابع للحكومة الانتقالية؛ إذ يُقدّر قوامها العسكري بنحو 100 ألف مقاتل، بينهم ما يقارب 30 ألف عنصر ضمن قوات الأمن الداخلي “الأسايش”. وقد خاضت هذه القوات مواجهات عنيفة خلال السنوات الماضية، سواء ضد جبهة النصرة قبل تحوّلها إلى هيئة تحرير الشام، أو ضد فصائل “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا، إضافة إلى معارك مباشرة محدودة مع الجيش التركي نفسه خلال عمليات “نبع السلام” و”غصن الزيتون” و”درع الفرات”.
وتتألف “قسد” من خليط عسكري متنوع دينيًا وعرقيًا؛ فهناك الفصائل الكردية والعربية والمسيحية. ويُعدّ أكبر هذه التشكيلات “وحدات حماية الشعب” الكردية، المنتشرة في معظم مناطق سيطرة “قسد”، ويرأسها سيبان حمو. وتُعدّ “قوات الصناديد” العربية ثاني أكبر التشكيلات، وينحدر معظم عناصرها من قبيلة شمر في محافظة الحسكة، ويرأسها الشيخ بندر حميدي الدحام الهادي. كما يبرز “المجلس السرياني العسكري”، وهو تشكيل مسيحي يعمل بشكل أساسي في الحسكة ويرأسه إيشوع كورية. كذلك تمثل “وحدات حماية المرأة” أحد الأذرع العسكرية الأكثر تنظيمًا داخل “قسد”، وتشير التقديرات إلى أن عدد مقاتلاتها يصل إلى نحو 24 ألف امرأة، يشاركن في العمليات العسكرية والأمنية بشكل واسع. وعلى المستوى السياسي، يُعد “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD) و”مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) المظلّة السياسية الرئيسة لهذه القوات.
الحرس الوطني في السويداء: صعود قوة محلية ذات امتدادات خارجية
خلال العامين الماضيين، تصاعد الحديث الإسرائيلي حول ما سمّي “ممر داوود”، وهو مشروع خط ربط جغرافي-أمني يصل بين الجولان السوري المحتل ومناطق شمال شرق الفرات حيث تنتشر “قسد”. وتشير التقارير الإسرائيلية إلى أن هذا الربط المفترض يمرّ عبر محافظة السويداء، حيث ينتشر “الحرس الوطني” التابع لشيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري. وتذهب تقارير إسرائيلية أبعد من ذلك، مؤكدة أن الحرس الوطني يتلقى دعمًا تسليحيًا وتمويلًا مباشرًا من “إسرائيل”.
وبات “الحرس الوطني” اليوم قوة مكتملة الأركان بعد أن انضوت تحت قيادته نحو 34 فصيلًا درزيًا في محافظة السويداء، أكبرها “حركة رجال الكرامة”. وتمتلك هذه القوة قدرات قتالية وتنظيمية مهمة، خصوصًا بعد إعادة هيكلة القيادة داخل المحافظة. وترى بعض المصادر أن اللقاء المحتمل -أو المتوقَّع- بين قوات الحرس الوطني و”قسد”، وهو ما دعا إليه الشيخ الهجري وتبدو “إسرائيل” مشجعة عليه، سيُحدث تحولًا دراماتيكيًا في الخريطة السورية.
تقاطع فكري وتوازنات جديدة: نحو تحالف محتمل يعيد تشكيل مراكز النفوذ
ويُنظر إلى هذا التحالف المحتمل على أنه قد يُنتج قوة عسكرية-سياسية ضخمة، لأسباب عدة: أولها الحجم العسكري المجمع لقوات قسد والحرس الوطني؛ والثاني الغطاء الإقليمي والدولي الذي قد تحظى به هذه القوة، سواء من الولايات المتحدة أو “إسرائيل”. كما أن سيطرة الطرفين على مناطق حيوية واستراتيجية – من حقول النفط والغاز شرقًا، إلى مناطق جبلية مؤمنة جنوبًا – يمنح هذا التحالف قدرة تأثير كبيرة على المشهد المستقبلي لسوريا، وربما على معادلة النفوذ الإقليمي أيضًا.
يتّضح من تتبّع المشهد العسكري والسياسي أنّ كلاً من قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والحرس الوطني في السويداء يتحرّكان ضمن رؤى متقاربة تقوم على تبنّي مبادئ الديمقراطية والعلمانية بوصفها أساسًا لإدارة الحكم والمجتمع، في مقابل نهج مغاير تتّبعه القوات الحكومية الحالية التي لا تزال تُبدي عداءً واضحًا لأي مشروع ديمقراطي أو لامركزي. وهذا التباين الفكري، إلى جانب العداء المشترك بين “قسد” والحرس الوطني تجاه القوات الحكومية ـــ الناتج عن مواجهات عسكرية مباشرة وخلافات بنيوية حول شكل السلطة ومستقبل سوريا ـــ يخلق أرضية سياسية وعقائدية قد تتيح قيام شراكة مستقبلية بين الطرفين. كما يجعل أي محاولة لدمج هذه القوات بالقوات الحكومية مهمة شبه مستحيلة، إلا إذا جرى ذلك بصورة شكلية لا تعبّر عن واقع الخلافات العميقة بينهما.
وإذا ما أضيف إلى ذلك حجم النفوذ العسكري لكل منهما، والمدى الجغرافي الواسع لنقاط انتشارهما، والاهتمام الدولي المتزايد ببناء توازنات جديدة في سوريا، فإن احتمالات تشكيل تحالف بين “قسد” والحرس الوطني لا تبدو بعيدة. مثل هذا التحالف، إن تحقق، سيكون قادرًا على إعادة رسم مراكز الثقل في الخريطة السورية، بل وربما فرض معادلة سياسية جديدة تتجاوز الحدود التقليدية للصراع، وتعيد تعريف توازنات القوى في سوريا لسنوات طويلة مقبلة.
إن هذا التداخل بين مصالح “قسد” وقوى محلية أخرى، إضافة إلى اهتمام أطراف دولية بخلق توازنات جديدة في سوريا، يعكس حجم التعقيد في المشهد السوري اليوم، ويشير إلى أن المرحلة المقبلة قد تشهد إعادة رسم للتحالفات وخطوط السيطرة، بشكل قد يغيّر ملامح الصراع.
إقرأ أيضاً: سوريا: دمج فصائل مسلحة تحت القيادة الأمريكية خطوة استراتيجية أم تحضير لانقلاب أو ممر داوود؟
إقرأ أيضاً: التشكيلات العسكرية في سوريا بعد سقوط النظام – الجزء الأول