سوريا على خريطة الإنترنت العالمية: ممرّ رقمي… بلا فائدة محلية
رغم هشاشة البنية التحتية المحلية، تحتل سوريا موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في شبكة الكابلات البحرية العالمية التي تُعد العمود الفقري للاتصال الرقمي بين القارات. فالساحل السوري، وتحديدًا ميناء طرطوس، يستضيف نقاط هبوط رئيسية لأنظمة كابلات مثل Ugarit وAletar وBerytar، التي تربط البلاد بدول الجوار كقبرص ولبنان ومصر.
وتُظهر الخرائط الحديثة أن سوريا ليست معزولة رقميًا كما قد يبدو، بل تمثّل ممرًا فعليًا لتدفق الإنترنت بين الشرق الأوسط وأوروبا. غير أن هذا الدور “العبوري” لم يتحوّل بعد إلى استفادة ملموسة داخل البلاد، سواء على مستوى جودة الخدمة أو سرعة الاتصال، ما يجعلها أشبه بـ “ممر رقمي بلا مردود”.
مشاريع جديدة وسعي للاندماج
خلال العامين الماضيين، شهد قطاع الاتصالات السوري سلسلة إعلانات عن مشاريع كابلات بحرية جديدة، أبرزها Ugarit-2 وSilkLink، إضافة إلى مشروع Alasia بالتعاون مع شركاء دوليين.
وتهدف هذه المشاريع إلى رفع السعة وتحسين الاعتمادية من خلال ربط سوريا بقبرص ودول شرق المتوسط. ففي إطار مشروع SilkLink، يجري العمل على مدّ شبكة ألياف ضوئية بطول نحو 4500 كيلومتر لربط المدن الكبرى مثل دمشق وحلب، إلى جانب توفير نقطة هبوط جديدة في طرطوس.
وفي أيار/مايو 2025، أعلن وزير الاتصالات عبد السلام هيكل إطلاق الجيل الخامس من الاتصالات (5G) بشكل تجريبي في دمشق، مؤكدًا أن الحكومة تسعى إلى تحويل سوريا إلى مركز إقليمي للاتصالات والبيانات.
اتفاقية “ميدوسا”: بوابة إلى الشبكة العالمية
في خطوة توصف بأنها الأهم منذ أكثر من عقد، وقّعت وزارة الاتصالات السورية اتفاقية مع شركة Medusa Submarine Cable System الإسبانية لإنزال أول كابل بحري دولي في ميناء طرطوس، يربط سوريا مباشرة بشبكة الاتصالات العالمية دون الحاجة إلى وسطاء.
ويمتد هذا الكابل من البرتغال مرورًا بعدة مرافئ في البحر المتوسط وصولًا إلى الساحل السوري، ما يجعله مشروعًا استراتيجيًا لإعادة دمج البلاد ضمن الخريطة الرقمية العالمية.
وبحسب الوزارة، سيُسهم الكابل الجديد في رفع سرعة الإنترنت وتقليل زمن الاستجابة إلى نحو 30–35 ملي ثانية، إضافة إلى خفض تكاليف نقل البيانات عبر مسارات أقصر وأكثر استقرارًا. كما يُتوقع أن يفتح المجال أمام الاستثمار في الخدمات السحابية والتعليم عن بعد والتجارة الإلكترونية، وأن يشكّل رافعة للبنية التحتية الرقمية في البلاد.
ويرى مراقبون أن الاتفاقية قد تُعيد رسم موقع سوريا على خريطة الاتصالات في شرق المتوسط، عبر تحويلها من ممرّ عابر إلى جسر رقمي بين آسيا وأوروبا يعزّز قدرتها التنافسية، ويضعها في مسار مشاريع إقليمية مشابهة في مصر وقبرص.
الفرص والعوائق: واقع استثماري متردد
يقول رجل الأعمال فيصل العطري في حديثه مع المدن، إن الموقع الجغرافي يمنح سوريا فرصة نادرة لتكون ممرًا رقميًا بين آسيا وأوروبا، إلا أن البيئة الاقتصادية والتشريعية لا تزال دون المستوى المطلوب.
ويشير العطري إلى أن غياب الأطر القانونية الواضحة يشكّل أحد أبرز التحديات، إذ تفتقر البلاد إلى تشريعات تنظم المرور البحري للكابلات وآليات الترخيص والتعاون الدولي.
ويضيف أن الموقع الجغرافي وحده لا يكفي، فالعقوبات والعزلة الدولية وغياب الثقة بقدرة سوريا على حماية بنيتها التحتية ما تزال تشكّل عقبات كبيرة. ويرى أن “الاستقرار والسمعة” هما العاملان الحاسمان في جذب الاستثمارات، داعيًا إلى بناء بنية تحتية رقمية مفتوحة (Open Access Infrastructure) تتيح شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص.
من طريق الحرير إلى طريق البيانات
من جانبه، يرى المهندس خالد الحمصي، الخبير الاستراتيجي في الاتصالات ومراكز البيانات، أن موقع سوريا الاستراتيجي “ضارب في القدم”، إذ مرّت عبر أراضيها قوافل التجارة وطريق الحرير القديم، واليوم تعود هذه الممرات ولكن بشكل رقمي.
ويقول الحمصي إن السواحل السورية مؤهلة لأن تكون نقطة وصول مثالية للكابلات القادمة من أوروبا، في حين يمكن أن تشكّل الأراضي السورية ممرًا لخطوط أرضية تصل إلى العراق وتركيا ولبنان ودول الخليج عبر الأردن.
لكن تحقيق ذلك، بحسبه، يتطلب إعادة بناء شبكة الألياف الضوئية الأرضية التي دُمّرت خلال الحرب، وإنشاء مراكز بيانات ونقاط ربط على امتداد البلاد، إلى جانب تأمين ثلاث ركائز أساسية:
-
الاستقرار الأمني والسياسي،
-
اتفاقيات إقليمية فعّالة لمرور الكابلات،
-
شركاء دوليون موثوقون لتشغيل وصيانة الكابلات.
ويضيف أن الخطوة اللاحقة ينبغي أن تكون الاستثمار في إنشاء مراكز بيانات بمعايير دولية، حتى تتحول سوريا من مجرد ممر إلى مركز رقمي إقليمي.
الفجوة مع دول الجوار
في الوقت الذي لا تزال فيه سوريا تلعب دور “الممر الصامت”، نجحت دول مجاورة في تحويل موقعها الجغرافي إلى أصول رقمية فاعلة. فمصر مثلاً أصبحت عقدة عالمية رئيسية بفضل استثمارات ضخمة في مراكز هبوط الكابلات البحرية، كان أحدثها مشروع IEX في حزيران/يونيو 2024.
أما قبرص، فقد عززت مكانتها كبوابة أوروبية بفضل مشاريع مثل Alasia، بالشراكة مع شركات دولية، ما أتاح لها تقديم خدمات عبور موثوقة للأسواق الإقليمية.
وهكذا، تظهر المفارقة بوضوح: بلد يمر عبره الإنترنت إلى العالم لكنه يبقى معزولاً عن فوائده الحقيقية. فبينما تُظهر الخرائط موقعًا استراتيجيًا، تروي الانقطاعات اليومية قصة هشاشة، وتكشف المقارنات مع الجوار فجوة رقمية واستثمارية كبيرة.
اقرأ أيضاً:لتحسين جودة الانترنت.. الاتصالات تطلق مشروع برق نت