“الشيخ” يحلّ محل “المدير” و“الضابط” في مؤسسات الحكومة السورية بعد سقوط النظام
شهدت مؤسسات الحكومة السورية الانتقالية بعد سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، تحولًا غير مسبوق في اللغة الإدارية والخطاب الرسمي داخل المكاتب والمخافر، حيث حلّ لقب “الشيخ” تدريجيًا محل الألقاب التقليدية مثل “المدير” و“الضابط” و“الرئيس”.
هذا التحول اللغوي والاجتماعي بات سمةً واضحة في الدوائر الحكومية السورية، إذ أصبح المواطن يسمع عبارات متكررة مثل: “راجع الشيخ”، “الشيخ مشغول”، أو “استنى الشيخ”، دون معرفة دقيقة بمن يُقصد باللقب أو ما موقعه الفعلي في المؤسسة.
لقب “الشيخ”.. من سلطة دينية إلى نفوذ إداري:
بحسب مراقبين، فإن انتشار لقب “الشيخ” يعكس محاولة لإعادة إنتاج السلطة القديمة بغطاء جديد، إذ لم يعد اللقب مرتبطًا بالدين أو العلم الشرعي، بل أصبح يرمز إلى “صاحب النفوذ” أو “صانع القرار” في المؤسسات الحكومية.
ويقول خبراء اجتماعيون إن هذا الاستخدام الجديد للقب يضفي على السلطة طابعًا أخلاقيًا زائفًا، ويمنح الخوف من الإدارة طابعًا “مقدّسًا” يخفي خلفه ممارسات السيطرة القديمة، لكن بلغة أكثر غموضًا.
داخل الدوائر الرسمية.. المواطن من “شيخ” إلى “شيخ”:
أصبح استخدام كلمة “الشيخ” جزءًا من اللغة اليومية في الدوائر المدنية، حيث يُطلب من المراجعين “الذهاب إلى الشيخ” دون توضيح هوية الشخص أو رتبته.
وتقول موظفة سابقة، مرح جابر، إنها تفاجأت بوجود أكثر من “شيخ” في دائرة واحدة: “كل معاملة تمرّ على شيخ مختلف، وما كنت بعرف مين الشيخ الحقيقي المسؤول.”
وتضيف أن اللقب أصبح واجهة للسلطة داخل المؤسسة، يُستخدم لإخفاء الهرمية الإدارية الحقيقية وجعل المواطن في مواجهة سلطة مجهولة.
في المخافر والحواجز: “الشيخ” بدل “الضابط”:
لم يقتصر الأمر على المؤسسات المدنية، بل امتد إلى المخافر والجهات الأمنية.
يقول سامر حسين من ريف دمشق إنه حين ذهب لتقديم شكوى في أحد المخافر، فوجئ بأن عناصر الشرطة ينادون الضباط بـ “الشيخ”: “سألت عن الضابط المناوب، قالوا لي روح لعند الشيخ أبو سامر. ضحك أحدهم وقال: هون الكل بيقولوا شيخ.”
ويؤكد حسين أن التعامل داخل المخفر يتم من خلال هذا اللقب فقط، مضيفاً: “ما عاد في نقيب أو ضابط أو حتى عسكري، الكل بيحكي عن الشيخ، الله يرحم أيام لما الشيخ كان بس رجل دين.”
ويرى سامر أن هذه الطريقة تخلق غموضاً متعمداً في معرفة الرتب والمسؤوليات، وتجعل المواطن في مواجهة سلطة بلا هوية واضحة.
الأمر ذاته تكرر على الحواجز الأمنية المنتشرة بين المحافظات. يقول أبو خالد، سائق نقل داخلي على خط دمشق–الحسكة: “كنا نسمع زمان العميد فلان أو الملازم فلان، اليوم بيقولوا الشيخ هو يلي قرر. حتى العنصر صار يُنادى بالشيخ.”
من الدوائر إلى المجتمع.. الكلمة تتسلل إلى الحياة اليومية:
لم تبقَ الظاهرة حكرًا على المؤسسات، بل تسللت إلى المدارس والأسواق والمجتمع المحلي.
تقول أم مياس، معلمة من ريف دمشق: “صار ابني يقول لي الشيخ صاحب المدرسة سمح لنا نطلع بكّير، الكلمة صارت تمشي بكل مكان.”
وتضيف أن الأطفال بدأوا يستخدمون “الشيخ” للدلالة على أي شخص يملك سلطة أو واسطة، ما يعكس تحولًا في الوعي الشعبي وقبولًا ضمنيًا بفكرة السلطة المغلّفة بالمظهر الديني.
باحثون يحذرون: “تديين الإدارة خطر على الوعي العام”:
يرى باحثون اجتماعيون أن استخدام لقب “الشيخ” بشكل مفرط يخلط بين السلطة الدينية والسلطة الإدارية، ما يؤدي إلى تشويش في المفاهيم العامة.
يقول أحد الباحثين: “حين يسمع المواطن كلمة شيخ في الدائرة أو الحاجز، لا يتخيل رجل دين، بل يتذكر الخوف والمنع والسلطة. وهنا الخطر الحقيقي.”
ويؤكد أن تحويل “الشيخ” إلى رمز إداري يفرغ الكلمة من معناها الديني، ويخلق سلطة غامضة بلا وجه أو هوية.
بين الرمزي والديني.. سلطة جديدة بوجه قديم:
يرى محللون أن انتشار هذا اللقب داخل مؤسسات الحكومة السورية هو جزء من عملية إعادة إنتاج السلطة نفسها التي كانت قائمة قبل سقوط النظام، لكن بلبوسٍ جديد.
فبدل “العميد” أو “المدير”، أصبح “الشيخ” هو رمز القرار والنفوذ، مما يجعل المواطن أمام نظام إداري مشوش، تحكمه لغة الغموض والهيمنة بدل الشفافية والمساءلة.
ويحذر مراقبون من أن استمرار هذه الظاهرة سيؤدي إلى إضعاف الثقة بالمؤسسات الرسمية، وتكريس ثقافة الخضوع والخوف بدل المساءلة والحقوق.
خلاصة:
تحوّل لقب “الشيخ” في سوريا من رمز ديني وأخلاقي إلى أداة سلطة وغموض إداري، تعكس واقعًا جديدًا يعيش فيه المواطن بين سلطة لا تُرى وقرارات لا تُعرف مصادرها، في ظل غياب الشفافية وانهيار البنية المؤسسية التقليدية.
إقرأ أيضاً: جمهورية الشيخ
إقرأ أيضاً: حملة «أوقفوا خطف النساء السوريات» ترفع الصوت ضد موجة الاختطاف القسري في المناطق العلوية