اقتصاد سوريا الجديدة: هل تنهض البلاد بلا إنتاج صناعي وزراعي؟

مع مرور أشهر قليلة على وصول الإدارة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع إلى الحكم في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، بدأت الحكومة الانتقالية السورية طرح رؤية اقتصادية جديدة تهدف إلى إخراج البلاد من أزمات متراكمة على مدار أكثر من عقد. وقد تجلّت هذه الرؤية بشكل واضح في مؤتمر “إعلان انتصار الثورة السورية” الذي عُقد في كانون الثاني/يناير 2025، حيث أعلن الرئيس الشرع خمس أولويات للمرحلة الانتقالية، من بينها بناء بنية اقتصادية تنموية متكاملة.

جدل السياسات الاقتصادية

يركز النقاش في الشأن الاقتصادي على مدى قدرة الحكومة على الجمع بين جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية وبين دعم الإنتاج المحلي والصناعة الوطنية. ففي مدينة حلب، على سبيل المثال، ما تزال آلاف الورش والمعامل خارج الخدمة بينما توجه الاستثمارات إلى مشاريع عقارية وبنية تحتية ضخمة، مما يثير تساؤلات حول إمكانية إهمال القطاع الصناعي الوطني لصالح مشروعات استثمارية ذات عائد سريع.

كما تتضمن الاستراتيجية الجديدة تقليص دور الدولة في إدارة المؤسسات الصناعية وفتح الباب أمام خصخصة الشركات وإعادة هيكلتها من خلال الشراكة مع القطاع الخاص، استنادًا إلى قناعة بأن القطاع الصناعي المتضرر يحتاج إلى تدفق رؤوس أموال جديدة وتقنيات حديثة وخبرات إدارية، لتجاوز سنوات التدهور.

استقطاب الاستثمارات والفرص المحدودة

وفق بيانات رسمية، اجتذبت سوريا منذ بداية المرحلة الانتقالية استثمارات خارجية مباشرة بقيمة 28.5 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى نحو 100 مليار دولار بنهاية العام الجاري. وشهدت الفترة الأولى من عام 2025 توقيع مشاريع مشتركة مع دول مثل الإمارات وقطر بقيمة 14 مليار دولار، ومشاريع سعودية بقيمة 6.4 مليار دولار. ورغم ضخامة هذه المبالغ، تظل بعيدة عن تلبية الاحتياجات الفعلية، إذ تشير تقديرات البنك الدولي إلى حاجة سوريا لنحو 400 مليار دولار لإعادة الإعمار خلال عقدين.

الواقع الصناعي المرير

القطاع الصناعي السوري يواجه تحديات بنيوية كبيرة، إذ انخفضت مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 25% عام 2010 إلى أقل من 8% عام 2014، مع تراجع الإنتاج من 355 مليار ليرة إلى 61 مليار ليرة في نفس الفترة، وما يزال هذا التدهور مستمرًا بسبب محدودية الموارد الأساسية كالنفط والغاز والكهرباء، إضافة إلى فقدان جزء كبير من الأراضي الزراعية والمياه خارج سيطرة الدولة.

ويشير الباحث الاقتصادي إياد الحجي إلى أن الإنتاج المحلي لا يمكن تعويضه بالمساعدات الدولية أو الاستثمارات العابرة، إذ لا توفر هذه الموارد سوى نحو 300 ألف فرصة عمل، بينما يحتاج الاقتصاد السوري إلى حوالي خمسة ملايين فرصة عمل لضمان التعافي المستدام. ويرى الحجي أن الحل يكمن في استعادة الدولة للسيطرة على مواردها الطبيعية وإدارتها بكفاءة لدعم القطاعات الإنتاجية الأساسية كالزراعة والصناعات الغذائية والخدمات.

الزراعة والصناعات الغذائية: قاطرة التعافي

الخبير الاقتصادي إياد أنيس محمد يؤكد أن أي مشروع اقتصادي ناجح يحتاج إلى قاعدة إنتاجية قوية، مشيرًا إلى أن القطاعات الثلاثة الأكثر جدوى هي الزراعة والصناعات الغذائية وصناعة الألبسة. هذه القطاعات أظهرت مرونة خلال سنوات الأزمة ونجحت في العودة إلى الأسواق، لكنها تواجه اليوم منافسة قاسية من المنتجات المستوردة، خصوصًا التركية والخليجية والأوروبية، ما أدى إلى خروج عدد كبير من المصانع المحلية من الخدمة.

وعلى الرغم من بعض الإجراءات الإيجابية مثل تخفيف الأعباء الجمركية أو حماية بعض المنتجات الزراعية، فإنها تبقى جزئية وغير كافية، فيما يظل القطاع الصناعي بحاجة إلى حماية مؤقتة وتمويل داعم لإعادة بناء قدراته الإنتاجية ومواجهة المنافسة غير المتكافئة.

آثار غياب الإنتاج على الاقتصاد والمجتمع

غياب الإنتاج المحلي لا يقتصر على الخسارة الاقتصادية، بل يمتد ليشكل تهديدًا للاستقرار الاجتماعي والسياسي. البطالة المتزايدة وتآكل القوة الشرائية وتراجع الصناعات الوطنية يؤدي إلى تفاقم الضغوط الاجتماعية، كما يزيد من الاعتماد على المساعدات الخارجية والتحويلات المالية، ما يجعل الاقتصاد هشًا ويعرض البلاد لمخاطر التبعية الاقتصادية والسياسية.

الاستثمار العقاري والمساعدات لا تغني عن الإنتاج

يرى محمد أن التركيز على الاستثمارات العقارية والسياحية والطاقة لا يمثل بديلًا عن الإنتاج الحقيقي. ولضمان تعافي الاقتصاد السوري، يجب إعطاء الأولوية للقطاعات الإنتاجية التي تخلق فرص عمل حقيقية وتوفر سلة غذاء محلية وتعزز التصدير، مع تبني سياسات دعم مؤقتة وإعادة الاعتبار للإنتاج الوطني كركيزة أساسية للنهضة الاقتصادية.

خلاصة

يبين الخبراء أن بناء سوريا الجديدة يمر بالضرورة عبر تعزيز الإنتاج المحلي في الزراعة والصناعة والخدمات، واستعادة السيطرة على الموارد الأساسية، وتوفير حماية مؤقتة للقطاعات ذات الميزة النسبية، مع فتح المجال للاستثمارات الأجنبية على قاعدة إنتاجية صلبة. أي نهضة اقتصادية تعتمد على المساعدات أو المشاريع العقارية فقط ستكون ناقصة ومرهونة بمخاطر اقتصادية واجتماعية كبيرة، بينما الإنتاج الحقيقي يظل الضامن الرئيس لتعافي الاقتصاد واستقرار المجتمع السوري على المدى الطويل.

اقرأ أيضاً:رفع العقوبات عن سوريا وعودتها لنظام سويفت تحول اقتصادي وفرصة استثمارية كبرى

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.