اتصال ماكرون – الشرع: هل تستطيع باريس تحريك الجمود السوري؟

أما أحمد الشرع، فكان يدرك على الطرف الآخر من الخط أن كل كلمة تُقال لا تُسمع في باريس وحدها، بل تُقرأ في موسكو، وأنقرة، وواشنطن، وهي مشبعة بالرمزية السياسية، ولكن أيضا بالرهانات التي لا ترحم.

إقرأ أيضاً: هل انتهى شهر العسل بين دمشق وواشنطن؟

إقرأ أيضاً: من يدير اقتصاد الظل في سوريا 2025؟

دماء الجنوب وظلال يوغوسلافيا: سياق طائفي ينذر بانفجار وشيك

في لعبة الأمم، ليس الصوت الفرنسي في سوريا بلا صدى، لكنه أيضا ليس بدايات لعمل فعال وواقعي، فحين يهاتف ماكرون الشرع، لا يتبادل الرجلان المجاملات بل يتفاوضان على الممكن في ظل الخراب، وعلى المسافة الدقيقة بين أخلاقيات السياسة وأخلاقيات الصورة، ويبدو أن باريس التي تخلّت عن طموحاتها الكولونيالية منذ زمن، ما زالت تحتفظ بقدرتها على صناعة الرمزية، ولو من رماد الحروب.

في اتصال هو الثالث من نوعه منذ شباط الماضي، أعاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإمساك بخيط الحوار مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، وفي لحظة سياسية مشوبة بالدماء؛ تعكس هشاشة المرحلة الانتقالية في سوريا وتكشف عن ملامح مقاربة فرنسية تتأرجح بين الواقعية الأخلاقية والطموح الجيوسياسي.

المكالمة التي جرت في 26 تموز 2025 لم تكن مجرد تعبير عن قلق أوروبي تقليدي، بل جاءت في ذروة أزمة طائفية دامية بجنوب سوريا، حصدت أكثر من 1,300 قتيل خلال أسبوع، معظمهم من أبناء الطائفة الدرزية، وفي سياق يعيد إلى الأذهان صورا من “الكانتونات الطائفية” التي مزقت يوغوسلافيا في التسعينيات، ووقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ الأحد الماضي بدا أشبه بضماد هش على جرح مفتوح، بينما تلوّح الوقائع بإمكانية تجدد النزيف.

كيف تبني باريس نفوذها في المشهد الانتقالي السوري؟

ماكرون، بصفته الصوت الأوروبي الأكثر اتصالا بالرئاسة الانتقالية السورية، شدد في المكالمة على ثلاثية مركزية: حماية المدنيين، مساءلة المتورطين في العنف، وإطلاق حوار محلي جامع، غير أن هذا الطرح، رغم موقعه الأخلاقي، يبدو معلقا بين حسابات قصر الإليزيه ووقائع الأرض، فالقدرة على ترجمة هذه المبادئ إلى فعل سياسي ملموس ما زالت محدودة في ظل توازنات إقليمية معقدة، وتردد أمريكي، وصعود محاور إقليمية لا تضع حقوق الإنسان في صدارة أجندتها.

ماكرون والشرع: بين خطاب المسؤولية وشبكات المصالح

هذه المكالمة لا يمكن فصلها عن سلسلة خطوات فرنسية بدأت منذ لحظة نصب الشرع نفسه في شباط (بايعته الفصائل الجهادية)، حين بادر ماكرون إلى الاتصال به مهنئا ودعاه لزيارة باريس، وفي خطوة قرأها كثيرون كـ”مقامرة ذكية” لإعادة نسج خيوط التأثير الفرنسي في شرق المتوسط، عبر نافذة الملف السوري.

زيارة الشرع إلى باريس في أيار الماضي، وتصريحات ماكرون حينها حول تخفيف العقوبات مقابل الإصلاح، كشفت أن باريس تتعامل مع الانتقال السياسي السوري كفرصة استراتيجية، لا مجرد ملف حقوقي.

هل تملك فرنسا أدوات التأثير أم تمارس رمزية بلا نفوذ؟

السؤال الجوهري يبقى في قدرة فرنسا على لعب دور فعّال، أم أن هذا الحراك لا يعدو كونه دبلوماسية رمزية في ظل تراجع الوزن الأوروبي في الإقليم؟

ماكرون يتحدث بلغة المسؤولية الدولية، ويدين العنف الطائفي، ويدعو إلى المساءلة، غير أن غياب أدوات تنفيذية حقيقية يجعل من هذه الدعوات أقرب حالة نظرية، فالمطلوب ليس فقط بيانا أخلاقيا، بل آلية دعم ملموسة لجهود الانتقال، بما يشمل ضغطا منسقا لتفعيل العدالة الانتقالية، ومرافقة المؤسسات الناشئة، واحتواء الفواعل المسلحة غير النظامية.

اختبار الإرادة لدى الشرع والضمانات الدولية

من جهة أخرى، يظهر الرئيس أحمد الشرع وكأنه يسير على حبل دقيق بين طموح سياسي، وواقع تفكك بنيوي تفرضه السياسات العامة للسلطة الجديدة بما تحويه من ضعف المؤسسات، وتآكل الثقة بين المكونات، وانعدام البنية القانونية الصلبة، وتضارب الأجندات المحلية والدولية.

هو رئيس مؤقت بصلاحيات مطلقة وفي مشهد دائم التحوّل، ومكالمته مع ماكرون تتيح له هامشا سياسيا دوليا، وإشارة ضمنية إلى أنه شريك مقبول في بعض دوائر القرار الدولي، لكنها تضعه أيضا أمام امتحان الالتزام؛ فهل هو قادر على تجاوز خطابات الطمأنة نحو مبادرات حقيقية للمصالحة والإصلاح؟ وهل يملك من الأدوات، ومن الجرأة، ما يتيح له كسر إرث الوصايات والانقسامات؟ فهل ينجح في تحويل الوعود إلى خطوات جريئة على الأرض، أم أن المرحلة الانتقالية ستظل رهينة خطابٍ جميل دون سندٍ سياسي؟

الانتقال السوري بين الأمنيات الغربية والعقد الاجتماعي المنتظر

الرهان الفرنسي على الشرع ليس بلا مقابل، فباريس تُراهن على نموذج انتقالي يعيد وصل ما انقطع بين سوريا والغرب، ويمنح أوروبا موطئ قدم في ما تبقى من المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط، أما السوريون، فهم بحاجة إلى أكثر من وعود غربية، لأنهم يحتاجون إلى سلام عادل لا يُقصي أحدا، وعدالة لا تُوظّف سياسيا، وانتقال لا يُبنى على التوازنات الطائفية، بل على العقد الوطني.

وفي الانتظار، تبقى مكالمة باريس-دمشق عنوانا لمفارقة كبرى: خطاب حقوقي ساطع، في زمن الواقعية القاسية.

إقرأ أيضاً: الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات على شخصيات في الحكومة السورية الانتقالية

إقرأ أيضاً: ماكرون للشرع: نؤكد على حماية المدنيين وضرورة المحاسبة على أحداث السويداء

 

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.