نقص الأدوية والأجهزة يحوّل المستشفيات الحكومية إلى محطة عبور نحو الخاص
لم تعد المستشفيات الحكومية في سورية الملاذ الأخير للفقراء وذوي الدخل المحدود كما كانت لعقود، بل تحوّلت في نظر كثير من المرضى إلى محطة عبور إجبارية نحو القطاع الخاص، في ظل نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية والأجهزة التشخيصية، ما يفرض أعباء مالية كبيرة على المواطنين في بلد تتآكل فيه القدرة الشرائية بسرعة.
شهادات من داخل المستشفيات
فوزية اللطيف، خمسينية من ريف دير الزور، قضت أكثر من شهر في مستشفى ابن النفيس بريف دمشق دون أن تحصل على أي دواء، على الرغم من حاجتها المستمرة للعلاج. كما اضطرّت إلى إجراء تحاليل مخبرية في مراكز خاصة خارج المستشفى، تكلفت كل واحدة منها نحو 100 ألف ليرة سورية، إضافة إلى تصوير شعاعي ورنين مغناطيسي تجاوزت تكلفته ثلاثة ملايين ليرة.
تجربة مماثلة رواها خلدون المبيض، موظف من ريف دمشق، عن والده الذي احتاج إلى تنظير هضمي عاجل، إلا أن جهاز التنظير لم يكن متوفراً داخل المستشفى، واضطر لإجرائه في مركز خاص. وأكد أن معظم المرضى يشترون مستلزماتهم الطبية على نفقتهم الخاصة، لافتاً إلى أن المشكلة تكمن في نقص التجهيزات أكثر من نقص الكادر الطبي، “الأطباء موجودون، لكنهم يعملون من دون أدوات”.
صباح داود، ربة منزل، تقول إن لجوءها إلى المستشفى الحكومي جاء لعجزها عن تحمل كلفة العلاج في القطاع الخاص، إلا أن المشفى لم يوفر لها الأدوية المطلوبة، بما في ذلك المسكنات البسيطة، واضطرت لإجراء تحاليل وصور شعاعية خارج المستشفى بتكاليف بلغت ثلاثة إلى أربعة ملايين ليرة. وأضافت أن كثيراً من المرضى كانوا يؤجلون الفحوصات أو يغادرون قبل استكمال علاجهم بسبب ارتفاع التكاليف.
الواقع الميداني مقابل وعود الوزارة
تعكس هذه الشهادات واقعاً يتكرر في مستشفيات مختلفة، حيث يؤدي المشفى الحكومي دور الاستقبال والتشخيص الأولي، فيما تُحال الفحوصات والعلاجات الأساسية على القطاع الخاص، ما يضاعف الأعباء المالية على المرضى.
في المقابل، قام وزير الصحة السوري، مصعب العلي، بجولات تفقدية غير معلنة على عدد من المستشفيات والمراكز الصحية في دمشق، اطلع خلالها على واقع الخدمات واحتياجات المرضى. وأكدت الوزارة أن هذه الزيارات تهدف لتحسين مستوى الرعاية الصحية، مع التركيز على إعادة تأهيل المشافي المتضررة وتوسيع نطاق التغطية الجغرافية للخدمات الطبية.
كما أعلنت الوزارة أنها تعمل على تأمين الأدوية والأجهزة الطبية، ودعم التصنيع المحلي، وإنشاء هيئة دواء وطنية بالتعاون مع الجانب السعودي، وتطوير المخابر الدوائية، مع اعتماد قوانين صارمة لتحسين الجودة والكفاءة، حتى لو أدى ذلك إلى إغلاق خطوط إنتاج غير مطابقة للمعايير.
نقص الأدوية والأجهزة: أثر العقوبات والتحديات الاقتصادية
زهير قراط، مدير التخطيط والتعاون الدولي في وزارة الصحة، أشار إلى أن العقوبات الاقتصادية السابقة أثرت بشكل كبير على القطاع الصحي، مسببة توقف عشرات المعامل الدوائية، وصعوبة استيراد الأجهزة الطبية المتطورة مثل أجهزة التصوير الطبقي والرنين المغناطيسي. وأضاف أن النقص في الأدوية داخل المستشفيات الحكومية يعود إلى توقف أكثر من 30 معملاً دوائياً محلياً، وضعف الدعم الطبي الإنساني، مع التأكيد على جهود الوزارة لتعزيز الإنتاج المحلي وتعاونها مع شركاء دوليين لتأمين الاحتياجات، رغم أن الإنتاج المحلي يغطي 20 إلى 30% فقط من الطلب.
من جانبها، أكدت منظمة الصحة العالمية دعمها لجهود إعادة بناء النظام الصحي في سورية وتعزيز الرعاية الصحية الأولية، مشيرة إلى توقيع أول اتفاقية وطنية للرعاية الصحية في البلاد، ضمن برنامج التغطية الصحية الشاملة.
الفجوة بين الواقع اليومي والوعود الرسمية
بين وعود إعادة بناء المنظومة الصحية والواقع اليومي في المستشفيات الحكومية، تتسع الفجوة التي يدفع ثمنها المرضى. غياب الأدوية والأجهزة لا يحوّل العلاج إلى عبء مالي فحسب، بل يفرغ فكرة المستشفى الحكومي من معناها الأساسي كمساحة حماية اجتماعية للفئات الأكثر هشاشة.
مع استمرار إحالة المرضى إلى القطاع الخاص، يجد كثيرون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: الاستدانة أو التخلي عن العلاج، ما يجعل اختبار قدرة الدولة على تحويل خطط الإصلاح إلى خدمات ملموسة مسألة حيوية تمس حياة الناس مباشرة.
اقرأ أيضاً:ترميم المستشفيات المدمرة: سوريا تعزز قطاعها الصحي