الفوسفات السوري بين الطموحات والواقع: نشاط تجاري بلا استثمارات حقيقية

على الرغم من أن الحكومة السورية وضعت قطاع الفوسفات في مقدمة أولوياتها الاقتصادية خلال المرحلة الانتقالية، باعتباره أحد أبرز الموارد القادرة على دعم إعادة الإعمار وتنشيط التجارة الخارجية، إلا أن واقع القطاع يظهر فجوة واضحة بين الخطط المعلنة والأنشطة القائمة فعلاً. فحتى الآن، لا يمكن الحديث عن استثمارات جديدة داخل المناجم أو في الصناعات المرتبطة بإنتاج الأسمدة، بل يقتصر الأداء الحالي على عمليات بيع وتصدير للخامات المتوفرة لدى الشركة العامة للفوسفات والمعادن، دون دخول شركات أجنبية أو محلية في مشاريع استثمارية جديدة، بما يجعل الحراك الدائر تسويقياً أكثر منه استثمارياً.

تحركات حكومية واتصالات دولية

في هذا السياق، شهدت الأسابيع الأخيرة مؤشرات متزايدة للاهتمام الحكومي بتسويق الفوسفات، حيث جرى الإعلان عن اجتماع بين سراج الحريري، ممثلاً عن المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية، وإدارة شركة ALIXIR GROUP الصربية، تمهيداً لتوقيع عقود لاستثمار الفوسفات وإطلاق مشاريع صناعية قائمة عليه.

ويؤكد الحريري، في تصريحات لـ”المدن”، أن قطاع الفوسفات يشهد منذ سقوط النظام السابق اهتماماً من مستثمرين محليين ودوليين، لافتاً إلى طرح وزارة الطاقة سلسلة من المناقصات والمزايدات لتطوير المناجم ورفع مستوى الإنتاج، وهو ما يعدّه مؤشراً على عودة الثقة بالبيئة الاستثمارية في البلاد.

ويضيف أن سوريا تمتلك احتياطياً يُقدَّر ما بين 1.8 و2.1 مليار طن من الفوسفات، ما يضعها ضمن أكبر خمس دول في العالم في هذا المجال. ويُنظر إلى هذه الثروة بوصفها ركيزة استراتيجية للاقتصاد الوطني، سواء عبر تعزيز الصادرات أو عبر دعم الصناعات المحلية.

أما على مستوى التصدير، فيكشف الحريري أن عمليات الشحن الخارجي استؤنفت منذ نيسان الماضي، حيث غادرت أول باخرة محملة بـ10 آلاف طن من مرفأ طرطوس، وتوالت بعدها الشحنات لتبلغ نحو 180 ألف طن خلال ثلاثة أشهر، قبل أن تتجاوز الكمية الإجمالية 550 ألف طن حتى اليوم، متجهة إلى دول مثل مصر ورومانيا وتركيا واليونان والهند بموجب عقود مع شركات محلية ودولية.

خطط طموحة… وتحديات قاسية

تعمل الحكومة على رفع الإنتاج إلى 5 ملايين طن بحلول عام 2026، مع هدف للوصول إلى 10 ملايين طن سنوياً في 2027، بالتوازي مع جهود لتطوير البنية التحتية للنقل والتخزين وتأمين حركة الشحن. كما تخطط لتخصيص جزء من عائدات الفوسفات لدعم الصناعات المحلية، خصوصاً تصنيع الأسمدة.

لكن القطاع يواجه تحديات كبيرة، أبرزها العقوبات الغربية التي تعيق حركة التصدير وتعقد مسارات الوصول إلى الأسواق الدولية، إضافة إلى حاجة المناجم لتحديث تقنيات الاستخراج والمعالجة. كما يشير الحريري إلى أن القطاع ما يزال بحاجة إلى ترسيخ ثقة المستثمرين بعد سنوات طويلة من التراجع والضبابية.

غياب الاستثمارات الفعلية رغم النشاط التجاري

من جانبه، يشير الباحث الاقتصادي ملهم جزماتي من شركة كرم شعار للاستشارات، في حديث مع “المدن”، إلى أن القطاع لم يشهد أي استثمار رأسمالي جديد منذ سقوط النظام، وأن ما يجري يقتصر على تصدير الخامات الموجودة دون تطوير فعلي للمناجم. ويصف العقود القديمة، وخاصة العقد الروسي الموقّع عام 2018، بأنها تشكل “عائقاً هيكلياً” أمام دخول أي طرف جديد إلى السوق.

ويشير إلى أن نموذج الاستثمار الروسي في سوريا اعتمد خلال سنوات النظام السابق على استخراج الموارد الأولية وتصديرها دون أي قيمة مضافة للاقتصاد المحلي، وذلك عبر شركة Stroytransgaz الخاضعة للعقوبات، والتي حصلت على عقد يمتد لخمسين عاماً يمنحها 70% من العائدات مقابل 30% للدولة. وبرغم إلغاء امتياز الشركة في إدارة مرفأ طرطوس مطلع عام 2025، فإن مصير عقدها في مناجم الفوسفات ما يزال غير واضح، وسط تقارير استقصائية تؤكد استمرار نشاطها عبر شبكات معقدة من الوسطاء لتجاوز العقوبات الأوروبية.

نفوذ روسي وإيراني متراكم

توضح بيانات جزماتي أن الشركة الروسية STG وشركاتها التابعة تهيمن منذ عام 2018 على منجمي الشرقية وخنيفيس، بموجب عقد طويل الأجل يفرض تقاسماً غير متوازن للإيرادات. كما تُظهر وثائق مسرّبة أن إيران وقّعت منذ 2017 مذكرة تعاون لتشغيل منجم الشرقية، مع اهتمام خاص بمنجم خنيفيس نظراً لاحتوائه على نسب من اليورانيوم.

عقبات بنيوية أمام الخطط الحكومية

ورغم الطموحات الحكومية في رفع الإنتاج إلى 6 ملايين طن بنهاية 2026، ثم إلى 10 ملايين طن في 2027، إلا أن هذه الخطط تصطدم بجملة عوائق، من بينها التهديدات الأمنية المتواصلة في البادية نتيجة هجمات خلايا داعش، وتدهور البنية التحتية للنقل، ولا سيما خطوط السكك الحديدية بين مناجم حمص ومرفأ طرطوس، إضافة إلى غياب التكنولوجيا اللازمة لدى الشركات المحلية.

ويعتبر جزماتي أن جوهر الأزمة يكمن في استمرار العقود الموروثة التي ما زالت تقيّد قدرة الحكومة على جذب استثمارات جديدة، إلى جانب نقص التمويل والخبرات الفنية الضرورية لتحديث القطاع.

احتمالات تحول خليجي

في المقابل، تبرز مؤشرات على توجه خليجي متزايد نحو الاستثمار في الفوسفات السوري، تقوده المبادرة السعودية عبر صندوق “إيلاف” المخصص للاستثمار في سوريا. ويرى جزماتي أن هذا التوجّه يمثل نقلة في السياسة الاقتصادية الخليجية، من المساعدات إلى الاستثمار المؤسسي طويل الأمد، بما يعزز فرص إطلاق مشاريع تحويلية مثل مصانع الأسمدة، ويوفّر بديلاً تدريجياً عن نموذج التصدير الخام، مع بناء سلسلة قيمة محلية قادرة على خلق وظائف وزيادة العائدات للدولة.

ورغم التحديات، يعتقد مراقبون أن المرحلة المقبلة قد تكون حاسمة لقطاع الفوسفات السوري، بين إرث العقود القديمة والفرص الاستثمارية الجديدة التي قد تنقل هذا المورد من خانة التسويق إلى الاستثمار الفعلي.

اقرأ أيضاً:نهر العاصي يجف للمرة الأولى في تاريخ سوريا: تداعيات بيئية واقتصادية

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.