أزمة مياه دمشق: الواقع يفرض حلولاً تتجاوز الترقيع

داما بوست -خاص

تشهد العاصمة السورية دمشق واحدة من أصعب فصولها المائية، مع تزايد العجز في كميات المياه اليومية وتراجع المصادر التقليدية التي لطالما شكّلت العمود الفقري لتأمين حاجة ملايين السكان. الأزمة، التي تتكشّف ملامحها بوضوح منذ أسابيع، لم تعد خافية على أحد، مع اتساع الفجوة بين الطلب الفعلي والمتاح يوميًا.

تشير المعطيات الصادرة عن الجهات المختصة إلى أن كمية المياه التي تُضخ حالياً لا تتجاوز 350 ألف متر مكعب يوميًا، في حين أن الحاجة الفعلية تتراوح بين 500 و550 ألف متر مكعب.

هذا العجز اليومي، الذي يصل إلى 200 ألف متر مكعب، يُعالج عبر إجراءات تقشفية وإدارية على مستوى المدينة والريف المحيط، بما في ذلك الاعتماد بشكل متزايد على الآبار، وتنظيم الاستهلاك، وتشديد الرقابة على المخالفات، بالتوازي مع حملات توعية لترشيد استخدام المياه.

لكن هذه الخطوات، رغم ضرورتها، تبقى حلولاً ظرفية في مواجهة أزمة تتفاقم بفعل تراجع المصادر الكبرى، وعلى رأسها نبع الفيجة، الذي يعاني من انخفاض لافت في منسوبه خلال العام الحالي، نتيجة الانحباس المطري والثلجي.

ووفق البيانات المناخية، فإن الهطولات المطرية لم تتجاوز هذا العام ثلث المعدل السنوي، فيما غابت الهطولات الثلجية بشكل شبه كلي عن مناطق التغذية الجوفية، ما قلّص كثيراً من قدرة النبع على تغذية الشبكة المائية العامة.

إلى جانب الفيجة، يمثل نهر الفرات تحديًا إضافيًا، في ظل تراجع الحصة المائية الواردة إلى الأراضي السورية عن المعدلات المتفق عليها دوليًا، ما قلّل من القدرة على الاعتماد عليه كبديل استراتيجي في أوقات الشح.

في المقابل، تمثل آبار نبع بردى رافداً ثانوياً مستقراً نسبياً، وقد تم تجهيز معظم هذه الآبار، فيما يجري العمل على استكمال تجهيز ما تبقى منها لتدخل الخدمة في الفترة المقبلة، بهدف رفع القدرة الإنتاجية وتخفيف الضغط على المصادر التقليدية المتراجعة.

وفي ظل هذا المشهد المائي المعقّد، تبرز الحاجة إلى رؤية جديدة لإدارة المياه، لا تقتصر فقط على التقنين أو توزيع الأعباء بين السكان، بل تتعداها إلى حلول بيئية ومؤسسية شاملة، تقوم على وقف السحب العشوائي من المياه الجوفية، وتوسيع نطاق المصادر المتاحة من خلال إعادة تأهيل المصادر السطحية، وحماية الحرم المائي لنبعي الفيجة وبردى من التعديات العمرانية والتلوث، خصوصاً في ظل ازدياد الكثافة السكانية في المناطق المحيطة.

ويؤكد خبراء البيئة على ضرورة التركيز على بدائل مستدامة، مثل جمع مياه الأمطار وحمايتها من الهدر والتلوث، وتشجيع أساليب الري الحديثة في الزراعة لتقليل الفاقد المائي، إلى جانب تطوير التشريعات التي تضمن حماية الموارد القائمة من الاستنزاف غير المشروع.

أما مشروع تحلية مياه البحر، الذي يُطرح كخيار بعيد المدى، فما يزال في طور الدراسة، ويواجه تحديات فنية واقتصادية كبيرة، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف الإنتاج، وغياب القدرة على تصنيع المستلزمات التقنية محلياً، مما يجعل تنفيذه حالياً بعيد المنال.

أزمة المياه في دمشق لم تعد أزمة مؤقتة ناتجة عن ظرف طارئ، بل تحوّلت إلى ملف استراتيجي يرتبط بمستقبل المدينة وحياة سكانها. وبين العوامل المناخية والضغوط البشرية، تبرز الحاجة الماسة إلى تحول في طريقة التفكير والتخطيط، نحو سياسات مائية تأخذ بعين الاعتبار الاستدامة والعدالة وكفاءة الإدارة. فالأمن المائي لم يعد ترفًا، بل ضرورة وطنية تفرض استجابة جماعية مسؤولة، تبدأ من صناع القرار ولا تنتهي عند المواطنين

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.