المهاجرون في سوريا الجديدة: عقدة الدولة الوليدة بين مطالب الخارج واعتبارات الداخل

يعود ملف “المهاجرين” أو المقاتلين الأجانب إلى واجهة المشهد السوري في مرحلة ما بعد سقوط النظام، باعتباره أحد أكثر الملفات تعقيدًا أمام الدولة السورية الحديثة. فبين إرث سنوات الحرب، وولاء مجموعات مقاتلة كانت “نواة صلبة” في “هيئة تحرير الشام”، وبين الضغوط الدولية المتصاعدة من الشرق والغرب، تجد دمشق نفسها أمام توازنات حساسة تتطلب حلولًا دقيقة لا تهدد استقرارها ولا مصالح شركائها.

على مدى 14 عامًا، قاتل آلاف المقاتلين الأجانب إلى جانب فصائل سورية معارضة، أو ضمن تنظيمات مختلفة، قبل أن يتحول وجودهم اليوم إلى محور تجاذب سياسي وضغوط دولية، ومطالبات بالترحيل أو المحاكمة أو الإبعاد عن مواقع النفوذ. وفي المقابل، تبرز في الداخل أصوات تطالب بالوفاء لـ“حلفاء السلاح”، الذين استقر كثيرون منهم في سوريا وتزوجوا وامتهنوا أنشطة مدنية.

هذا الملف، الذي تبحثه “عنب بلدي” بتفاصيله، يلامس جوانب تتعلق بالسياسة الخارجية للدولة السورية، وبالسيناريوهات المحتملة لمصير نحو خمسة آلاف فرد بين مقاتل وأفراد عائلاتهم، إضافة إلى خطط دمج 3500 منهم في الجيش، وإمكانات الاستفادة من خبراتهم الفنية والقتالية.

ضغط دولي متزايد.. ورقة رابحة أم اختبار للسلطة الجديدة؟

عاد الملف إلى الواجهة خلال زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى الصين في 17 تشرين الثاني، حيث حملت الزيارة التزامًا سوريًا بعدم السماح باستخدام الأراضي السورية لتهديد أمن الصين، في إشارة مباشرة إلى مقاتلي الإيغور.
الصين ليست وحدها؛ فالدول الأوروبية بدورها أبلغت دمشق أن دعمها للحكومة الجديدة مرهون بخطوات “حاسمة” تجاه “الجهاديين الأجانب”.

وتبرز حساسية الملف أيضًا لدى روسيا، التي تخشى عودة المقاتلين من القوقاز وآسيا الوسطى، مثلما تبدي دول عربية كمصر والعراق هواجس مشابهة.

ورغم نفي دمشق التقارير التي تحدثت عن احتمال تسليم 400 مقاتل من الإيغور إلى الصين، فإن مصادر دبلوماسية أكدت أن الملف مطروح بجدية في القنوات السياسية.

من هم المقاتلون الأجانب؟

منذ عام 2011، دخل المقاتلون الأجانب إلى سوريا من بوابات متعددة:

  • معارضون للنظام التحقوا بفصائل المعارضة و“هيئة تحرير الشام”.

  • متشددون التحقوا بتنظيم “الدولة الإسلامية”.

وينتمي هؤلاء إلى أكثر من 15 دولة عربية وأوروبية وآسيوية، أبرزها السعودية وتونس والمغرب والجزائر، إضافة إلى دول البلقان، والقوقاز، وتركستان الشرقية، وفرنسا. وتقدّر الدراسات أن أعدادهم مع عائلاتهم لا تتجاوز خمسة آلاف.

الموافقة الأميركية في حزيران الماضي بدمج 3500 مقاتل—أغلبهم من الإيغور—ضمن الفرقة “84” كانت نقطة تحول في التعامل مع هذا الملف.

تأثيرهم على العلاقات الخارجية السورية

يعتبر الباحث سمير العبد الله أن ملف المقاتلين الأجانب “الأكثر حساسية” في السياسة الخارجية السورية اليوم، إذ يرتبط مباشرة بمصالح الصين وروسيا وأوروبا.
ولذلك تميل أغلب الدول إلى إبقاء هؤلاء داخل سوريا وفق تفاهمات محددة، شرط عدم منحهم أي دور سياسي أو أمني، وضمان عدم تحولهم إلى تهديد.

المبعوثون الأوروبيون والأميركيون حذروا دمشق صراحة من تعيين “جهاديين أجانب” في مواقع عسكرية عليا، معتبرين ذلك خطرًا على صورة الحكومة الجديدة وسياستها الدولية.

خلاف داخلي حول مصيرهم

بعض المقاتلين الأجانب اندمجوا في المجتمع المحلي، وتزوجوا، وابتعدوا عن القتال. آخرون أصبحوا موظفين حكوميين أو جنودًا في الجيش. وقد تقدم عدد منهم بطلبات رسمية للحصول على الجنسية.
وكشفت “رويترز” عن التماس رفعه صحفي أميركي مقيم في إدلب يدعو لمنح آلاف المقاتلين الجنسية السورية. في المقابل، يرى آخرون أن وجودهم في سوريا “مرحلة مؤقتة” قبل العودة إلى بلدانهم، ويرفضون التجنيس.

ثلاثة سيناريوهات محتملة

وفق الباحثين، هناك ثلاثة مسارات رئيسية:

1. المعتقلون من تنظيم “داعش”

مرتبطون بترتيبات دولية معقدة، خصوصًا أن كثيرًا من الدول ترفض استقبال مواطنيها.

2. الراغبون في البقاء

يمكن دمجهم كمواطنين ضمن شروط واضحة، خاصة من لا يمتلك سجلًا متطرفًا.

3. الجمود

وهو السيناريو الأخطر، إذ يعيد إنتاج بيئات التطرف وشبكات التهريب، على غرار ما يحدث في مخيم “الهول”.

الاستفادة من خبراتهم: فرصة أم تهديد؟

قدّم بعض المقاتلين خبرات قتالية لافتة، خصوصًا أولئك المنضوين سابقًا ضمن “ملحمة تاكتيكال” أو “العصائب الحمراء”. ويقترح خبراء عسكريون توظيف خبراتهم في:

  • تحويلهم إلى مدربين تقنيين في الكليات الحربية.

  • تشكيل وحدات مهام خاصة على غرار “الفيلق الأجنبي الفرنسي”.

  • الاستفادة من خبراتهم في مكافحة خلايا “داعش” وضبط الحدود.

لكن في المقابل، يحذر آخرون—ومنهم الباحث منير أديب—من كونهم “قنبلة موقوتة” بحكم استمرار الخلفية الأيديولوجية، واحتمال أن يشكلوا نواة صلبة داخل الجيش قد تستقل بقرارها على المدى الطويل.

مخاوف تتعلق بالسيادة والشرعية

يحذر خبراء من مخاطر وجود كتلة عسكرية كبيرة ذات ولاء خارجي أو أيديولوجي داخل الجيش، ومن احتمال تحولها إلى قوة نفوذ مستقلة، على غرار المماليك والإنكشارية في التاريخ الإسلامي.

كما أن وجود مقاتلين من الإيغور أو القوقاز ضمن تشكيلات رسمية قد يضع الدولة السورية في مواجهة دبلوماسية مباشرة مع الصين وروسيا.

تفكيك الكتل الصلبة.. مقاربة أمنية مطروحة

تقترح مقاربات أمنية تفكيك الكتل المقاتلة وتوزيع عناصرها في وحدات صغيرة ضمن ألوية سورية، ومنع تشكيل “فرقة أجنبية” متجانسة مثل “الفرقة 84”، لضمان ذوبانهم في المؤسسة العسكرية وتقليل مخاطر الولاء الجماعي.

ويشدّد الخبراء على أن دورهم يجب أن يكون تقنيًا لا استراتيجيًا، مع إتاحة الخروج لمن لا يقبل الاندماج الكامل.

فصائل أجنبية بارزة قاتلت إلى جانب المعارضة

  • الحزب الإسلامي التركستاني
    يضم نحو 3500 مقاتل، أغلبهم من الإيغور القادمين من إقليم تركستان الشرقية، ويتمركز بشكل رئيسي في ريف إدلب الغربي وسهل الغاب. شارك مقاتلوه في معارك عديدة إلى جانب فصائل المعارضة، ويُعد من أكبر الفصائل الأجنبية في سوريا من حيث العدد والتنظيم.

  • فرقة الغرباء الفرنسية
    تتكون من نحو 70 مقاتلًا بقيادة الفرنسي عمر أومسن، المعروف بنشاطه الدعائي عبر الإنترنت. تنشط الفرقة في مناطق إدلب، وتقتصر مهامها في الغالب على القتال ضمن مجموعات صغيرة وبأدوار محدودة.

  • كتيبة أنصار الإسلام
    تضم مقاتلين أكراد من سوريا والعراق وإيران، وتتمركز بشكل أساسي في ريف إدلب. شاركت في معارك متفرقة إلى جانب فصائل المعارضة، وتُعرف بتخصصها في القناصة والعمليات النوعية.

  • الكتيبة الألبانية
    يبلغ عدد أفرادها ما بين 100 و150 مقاتلًا، ويتحدر معظم عناصرها من ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا. تنشط في مناطق ريف اللاذقية الشمالي وريف إدلب.

  • جهاديو الشيشان
    يتوزع الشيشان على عدة مجموعات، أبرزها “جند الشام”، إلى جانب مجموعات أصغر تنشط في إدلب وجبال اللاذقية، وتتركز مهامها في العمليات الهجومية وحرب الجبال.

  • كتيبة الإمام البخاري
    كتيبة أوزبكية تضم نحو 300 مقاتل، أسسها أبو محمد الأوزبكي عام 2013، ونشطت في ريف إدلب الشمالي وريف حلب. شاركت في معارك حلب واللاذقية، وحافظت على حياد نسبي في النزاعات بين فصائل المعارضة.

  • ملحمة تاكتيكال
    تأسست في أيار 2016 من مقاتلين ناطقين بالروسية من الشيشان والأوزبك والآذر، ويبلغ عدد أفرادها نحو 200 عنصر. تختص في التدريب العسكري والتكتيكي لفصائل المعارضة، مع التزامها بعدم المشاركة في الخلافات الفصائلية.

  • حركة مهاجري أهل سنة إيران
    تأسست عام 2013 بقيادة ملا عبد الرحمن فتحي، وانضمت بالكامل إلى هيئة تحرير الشام في آب 2016. يبلغ عدد عناصرها نحو 150 مقاتلًا، وتتركز مقارها في جسر الشغور وحارم بريف إدلب الشمالي الغربي، وتشارك في القتال ضمن الصفوف الخلفية.

  • تنظيم حراس الدين
    الفرع الرسمي لتنظيم القاعدة في سوريا منذ شباط 2018، وبلغ عدد مقاتليه نحو 1500 عنصر، بينهم حوالي 400 أردني ومغربي وتونسي. تعرض لحملة تفكيك من منهجية بين 2020 و2022 على يد تحرير الشام، قبل أن يعلن حل نفسه في 29 كانون الثاني الماضي عقب سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024.

خاتمة

يمثل ملف المقاتلين الأجانب اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة السورية الجديدة على موازنة الضغوط الدولية، وضبط الحساسية الداخلية، والتعامل مع إرث ثقيل يمتد أكثر من عقد.
وبين الاستيعاب والدمج أو الترحيل أو التسوية متعددة الأطراف، لا تزال الخيارات مفتوحة، بينما تبقى تكلفة الخطأ في هذا الملف عالية على مستوى الأمن والشرعية والسياسة الدولية.

اقرأ أيضاً:من باريس إلى إدلب… فرقة الغرباء وعمر أومسين

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.