مناف طلاس يعود إلى الواجهة من باريس: بين توحيد السلاح ورفض الفيدرالية

داما بوست -أسعد موسى

توقيت حساس وظهور استثنائي

أثارت إطلالة العميد المنشق مناف طلاس في المحاضرة التي نظمها معهد العلوم السياسية “سيانس بو” في العاصمة الفرنسية باريس موجة واسعة من التساؤلات حول توقيت هذا الظهور ومضمون ما حمله من رسائل، خصوصًا أنه جاء بعد سنوات طويلة من الغياب عن الإعلام. وقد شكّل هذا الظهور أول إطلالة علنية له منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، وبعد المجازر التي شهدتها منطقتا الساحل والسويداء، وفي وقت تمر فيه المرحلة الانتقالية السورية بمحطات مفصلية، أبرزها زيارة رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع إلى نيويورك، والاتفاق الأمني المزمع توقيعه مع “إسرائيل”.

هذا التزامن منح محاضرة طلاس بُعدًا إضافيًا، وجعلها حدثًا سياسيًا لا يمكن فصله عن السياق العام الذي تعيشه البلاد في هذه المرحلة الحساسة. فمنذ انشقاقه في بدايات الصراع السوري، ظلّ طلاس شخصية مثيرة للجدل، تجمع بين الإرث العسكري والسياسي لعائلته من جهة، والابتعاد الطويل عن الساحة من جهة أخرى. لكن ظهوره الأخير أعاد طرح تساؤلات حول موقعه في الخارطة السورية المقبلة، وما إذا كان يتهيأ للعب دور يتجاوز حدود التنظير إلى المساهمة العملية في إعادة تشكيل المؤسسة العسكرية والسياسية على السواء.

مشروع مجلس عسكري علماني:

في محاضرته، ركّز طلاس على مسألة توحيد السلاح، معتبرًا أن أي حل سياسي أو أمني في البلاد لن ينجح من دون تأسيس مجلس عسكري علماني يتولى مهمة جمع مختلف القوى على الأرض تحت مظلة واحدة. وكشف أنه عمل خلال السنوات الماضية على بلورة فكرة هذا المجلس، موضحًا أنه يضم أكثر من عشرة آلاف ضابط من الجيش السوري السابق ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء، إلى جانب عناصر من الفصائل المختلفة وقوات سوريا الديمقراطية، وممثلين عن مناطق متفرقة بما فيها السويداء والساحل.

أهمية هذا الطرح تنبع من كون طلاس ليس مجرد ضابط منشق يمكن تجاهل حديثه، بل شخصية تحمل ثقلًا سياسيًا واجتماعيًا يفرض نفسه في المشهد السوري. فهو ينتمي إلى عائلة ارتبط اسمها بالمؤسسة العسكرية منذ عقود، ويحظى بقبول من مكونات سورية متعددة، سواء من الأقليات أو من أطياف ضمن الطائفة السنية. هذا الموقع يمنحه مكانة يصعب تجاوزها في أي حديث عن مستقبل الجيش أو عن إعادة بناء الأجهزة الأمنية.

غير أنّ دعوته إلى توحيد البندقية تضع الحكومة الانتقالية أمام تحدٍ كبير، إذ لم تتمكن حتى الآن من إنجاز هذا الهدف. فقد أخفقت مساعيها للتفاهم مع قوات سوريا الديمقراطية من جهة، ومع الفصائل الدرزية في السويداء من جهة أخرى.

الفيدرالية: عقدة النقاش السوري:

إلى جانب قضية السلاح، تطرق طلاس إلى مسألة الفيدرالية، وهي واحدة من أعقد الملفات في النقاش السوري الراهن. فقد شدد على ضرورة بقاء الجيش السوري موحدًا ومركزيًا، مع منح المدن والمحافظات صلاحيات واسعة لإدارة شؤونها المحلية.

هذا الطرح يعكس محاولة لإيجاد صيغة وسطية بين من يطالبون بالفيدرالية الكاملة كضمانة لحقوق المكونات، وبين من يخشون أن يؤدي هذا الخيار إلى تفكك الدولة. إلا أن رفض طلاس الصريح للفيدرالية يضعه في موقع الخلاف مع قوى أساسية مثل قوات سوريا الديمقراطية وبعض القوى العلوية، فضلًا عن شريحة واسعة في السويداء ترى في الفيدرالية مخرجًا لأزماتها.

في المقابل، يتقاطع موقفه مع الموقف التركي الرافض بشدة لأي صيغة فيدرالية، وهو ما يوحي بأن طلاس يسعى إلى تجنّب إغضاب أنقرة في هذه المرحلة الحرجة. هنا يطرح سؤال جوهري: هل ستسير القوى المختلفة، خاصة بعد أحداث الساحل والسويداء، في مشروعها نحو الفيدرالية، أم يمكن إعادة صياغة مركزية ترضي جميع الأطراف؟

ردود الفعل:

ختم طلاس محاضرته بإجابة حملت الكثير من الدلالات، حين سأله أحد الحاضرين عن إمكانية عودته إلى سوريا، فقال إنه يعتقد أن هذه العودة قريبة وفاعلة. هذا التصريح فتح باب التأويلات على مصراعيه، سواء لجهة إمكانية أن يلعب طلاس دورًا قياديًا في المجلس العسكري الذي تحدث عنه، أو أن يجد لنفسه موقعًا سياسيًا داخل البنية الجديدة للدولة السورية بعد سقوط النظام السابق.

من بين ردود الفعل، قال عمر رحمون، أمين عام “حركة الاعتدال الوسطي السوري: “‏محاضرة الجنرال مناف طلاس كانت كقنبلة فكرية نووية انفجرت في وجه سلطة القاعدة بدمشق، فاهتزت دون أن يوجه إليها كلمة إساءة.”

فيما قال عمر منيب إدلبي، مدير مركز حرمون للدراسات المعاصرة في الدوحة والمقرب من حكومة دمشق: إنّ الحدث “يعكس حيوية الشعب السوري ورغبته في المشاركة بصناعة مستقبل وطنه”، مشيرًا في المقابل إلى أنّه “أظهر أيضًا أن لفيفًا من الحمقى ما زالوا يتوهمون ويراهنون على سيناريوهات دولية لتحقيق أحلامهم.”  وأضاف: “مرحبًا بكل جهد وطني يسعى لإعادة السوريين إلى حقل السياسة، شرط ألا يُخدَّروا بمشاريع الوهم أو يُدمَّروا بالتحريض والتجييش الطائفي والهوياتي.”

طلاس والمواقف الدولية: فرنسا والسعودية:

يُحسب طلاس على الدائرة الفرنسية، إذ لطالما عُدّ مقربًا من باريس التي تحاول اليوم أن تلعب دورًا إضافيًا في الملف السوري. ففرنسا، بحكم علاقاتها الوثيقة مع قوات سوريا الديمقراطية من جهة، ومحاولاتها التوسط بينها وبين دمشق من جهة أخرى، تجد في شخصية مثل طلاس جسرًا محتملاً لتعزيز نفوذها في المرحلة المقبلة. كما تسعى باريس إلى توسيع حضورها في الساحل السوري لما لهذه المنطقة من أهمية استراتيجية متصلة بالموارد النفطية والمياه الدافئة على البحر المتوسط.

أما على الجانب السعودي، فالعلاقة مع عائلة طلاس تمتد إلى عقود منذ أن كان الأب مصطفى طلاس وزيرًا للدفاع، حيث احتفظت الرياض بروابط وثيقة معه، ثم استمرت هذه العلاقة مع الابن مناف. هذا الإرث يمنح طلاس رصيدًا عربيًا إضافيًا يمكن أن يعزز من موقعه السياسي إذا ما قررت المملكة استثماره في المرحلة المقبلة. فالسعودية، التي تسعى إلى لعب دور محوري في إعادة إعمار سوريا وضمان التوازن الإقليمي مع أنقرة بعد سقوط النظام، قد تجد في طلاس شخصية يمكن أن تجمع بين بعدين: القبول الدولي من جهة، والارتباط العربي من جهة أخرى.

“إسرائيل” وطلاس: حسابات متوجسة:

في المقابل، لا يبدو أن “إسرائيل”، من منطلقها الاستراتيجي، ترى في طلاس بديلًا يمكن التعويل عليه. فطرحه حول توحيد البندقية وإعادة بناء الجيش السوري الموحد يُنظر إليه في “تل أبيب” باعتباره تهديدًا محتملًا، خاصة إذا ما أظهر التفافًا شعبيًا حوله. فـ “إسرائيل” لطالما فضّلت واقع التشرذم العسكري والسياسي في سوريا باعتباره ضمانة لأمنها، ومن هنا فإن أي مشروع يعيد هيكلة الجيش على أسس وطنية جامعة، كما يطرح طلاس، يتعارض مع مصالحها التقليدية.

يبقى السؤال الأبرز: هل يمهّد ظهور مناف طلاس من باريس لعودته لاعبًا أساسيًا في المرحلة الانتقالية، أم أنه مجرد إطلالة عابرة في لحظة سياسية حساسة؟ وهل سيكون قادرًا على تحويل ما يطرحه من أفكار إلى واقع سياسي وعسكري ملموس في سوريا الجديدة؟

إقرأ أيضاً: تحالف مرتقب بين «قسد» ومناف طلاس لإطلاق مجلس عسكري وطني في سوريا

إقرأ أيضاً: مناف طلاس: العودة إلى المشهد السوري ورؤيته لمستقبل ما بعد الأسد

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.