ما بعد الأسد: تصدّع في الوعي السوري واستقطاب يهدد مستقبل البلاد

بينما كان كثير من السوريين يأملون بأن يشكّل سقوط نظام بشار الأسد محطة مفصلية في اتجاه بناء وطن جديد جامع، تكشف الأحداث الأخيرة في الداخل السوري والشتات عن واقع أكثر تعقيدًا. فمع تصاعد التوتر في الجنوب السوري، خصوصًا في محافظة السويداء، تتفاقم مؤشرات الانقسام الاجتماعي والاستقطاب الطائفي على نحو مقلق، يظهر جليًا في سلوك الشارع السوري على الأرض، وعلى منصات التواصل الاجتماعي في آن معًا.

ما يميّز هذا الاستقطاب عن ذلك الذي عرفته البلاد إبّان الأحداث في 2011، هو أنه لم يعد محصورًا بالموقف من السلطة السياسية، بل بات يمتد إلى الهويات الفرعية والانتماءات الدينية والمناطقية، ما يفتح الباب أمام مخاوف جدّية من تآكل مفهوم الدولة والمواطنة، وتحوله إلى حالة شعورية هشّة تتحكم بها صور القتل والانتهاكات.

القتل الموثق… والذاكرة الجماعية

تسود منصات التواصل مشاهد صادمة وموثقة لانتهاكات ارتكبت بحق مدنيين، سواء في السويداء أو في المناطق البدوية المجاورة، ما بين إعدامات ميدانية، وتعذيب، وتشريد، وسرقة علنية. الأخطر من ذلك أن الكثير من هذه الانتهاكات جرى تصويرها ونشرها من قبل الجناة أنفسهم، في سلوك يُطرح حوله سؤال حاسم: هل هو محض استعراض للقوة، أم هو تكتيك لبث الرعب وترهيب المجتمعات؟

من المؤسف أن هذه المشاهد لا تثير فقط الإدانات، بل تحوّلت لدى بعض المستخدمين إلى مادة للنقاش على قاعدة المفاضلة بين الضحايا، وكأن التعاطف الإنساني صار مشروطًا بمستوى العنف أو بهوية من تعرّض له، في مشهد يعكس تراجعًا مقلقًا في الحس الأخلاقي المشترك.

التضامن الانتقائي ومخاطر خطاب الكراهية

ردود الفعل التي أعقبت أحداث السويداء والمجازر التي طاولت البدو في ريفها، أظهرت ميلًا خطيرًا إلى قياس الدماء، ومقارنة المجازر بناءً على الانتماء الطائفي أو الجغرافي. وفي مقابل بعض المبادرات التضامنية، مثل لافتات الدعم التي رفعت في دمشق خفية، برزت موجة من التخوين والتنمر الطائفي من قبل أطراف على الأرض وأخرى خارج البلاد.

بعض النشطاء – خصوصًا في بلدان اللجوء – باتوا يلعبون دورًا خطيرًا في التحريض والانقسام، من خلال منشورات تُلهب مشاعر الكراهية، تحت مبررات الرد أو الانتقام. في المقابل، تتوارى الأصوات التي تحاول التهدئة وبناء مشترك وطني، وسط خطاب تعبوي يعيد إنتاج ما ثار السوريون ضده قبل أكثر من عقد.

التحدي الأكبر: النسيج الاجتماعي

لا يكمن خطر المرحلة في العمليات العسكرية أو التحولات السياسية فحسب، بل في الشرخ المتزايد بين مكونات المجتمع السوري، الطائفية منها والإثنية والمناطقية، شرخ يهدد أسس العيش المشترك في المستقبل، ويطرح أسئلة كبرى حول مشروع الدولة الذي تسعى إليه القوى الجديدة بعد نهاية حكم الأسد.

الخطاب الأخلاقي والسياسي المطلوب في هذه المرحلة لا يكفي أن يكون عقلانيًا فقط، بل يحتاج إلى شجاعة في الاعتراف بالأخطاء والانتهاكات، وإرادة فعلية للمحاسبة والإنصاف، بصرف النظر عن هوية الضحية أو الجاني.

مسؤولية المرحلة الانتقالية

في ضوء ما تشهده البلاد، تبدو السلطات الجديدة أمام اختبار حقيقي لمصداقيتها: هل تستطيع فرض القانون ومحاسبة المرتكبين، أم أنها ستسمح بانفلات القوى المحلية والميليشيات بحجج طائفية أو أمنية؟ هذا السؤال يحدد شكل سوريا المقبلة، ويقرر إن كانت البلاد ستدخل طور بناء الدولة، أم تُغرق في فوضى جديدة مغلّفة بشعارات الثورة.

ختامًا، بعد عقد من الدم، لا يبدو أن ما يجمع السوريين هو الحلم بوطن موحد فحسب، بل الوعي بأن الطغيان لا يتغير فقط بتبديل رأس السلطة، بل بكسر البنية التي أنتجته. وفي لحظة تتكاثر فيها الأصوات الداعية إلى الثأر، وحده العقل الجمعي القائم على المحاسبة لا الانتقام، وعلى العدالة لا الغلبة، هو ما يمكن أن يعيد تصويب البوصلة الوطنية، ويمنع الانهيار الكامل لما تبقى من مشترك سوري.

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.