قطار الحجاز: هل تعود السكك الحديدية لتصنع معجزة اقتصادية في سوريا؟

داما بوست -خاص

من أعماق التاريخ، يطل قطار الحجاز برأسه، ليس مجرد خط سكة حديد فقط، بل قصة حضارة وشريان حياة، يحمل اليوم على متنه آمالاً عريضة بإعادة إحياء الاقتصاد السوري، فبعد عقود من الركود، تتجه الأنظار نحو هذا المشروع التاريخي، ليس بصفته ذكرى ماضية، بل كبوابة نحو مستقبل مزدهر، يمكن أن يعيد لشبكة السكك الحديدية السورية نبضها، وللبلاد عافيتها الاقتصادية.

تاريخ عريق ورؤية طموحة

في مطلع القرن العشرين، لم يكن إنشاء “السكة الحديدية الحميدية” مجرد إنجاز هندسي عثماني؛ بل كان تجسيدًا لرؤية طموحة للسلطان عبد الحميد الثاني، ومشروعًا قوميًا وإسلاميًا فريدًا من نوعه. لقد بلغت تكلفة هذا المشروع الضخم، الذي امتد على طول حوالي 1300 كيلومتر من دمشق إلى المدينة المنورة، ما يقدر بـ 3.5 مليون ليرة عثمانية ذهبية أي ما يعادل في وقتنا الراهن مليارين ونص المليار دولار، حيث تضافرت جهود وتبرعات المسلمين من مختلف بقاع العالم لتمويل هذا الشريان الحيوي، الذي اختصر رحلة الحج الشاقة من شهور إلى أيام معدودة. لم يقتصر تأثيره على تسهيل الشعائر الدينية، بل أحدث ثورة في حركة التجارة، وساهم في ازدهار غير مسبوق للمدن والقرى الواقعة على طول مساره، محولاً الصحاري إلى مراكز حيوية للتبادل التجاري والثقافي. لقد كان القطار رمزًا للحداثة، وتحديًا للمسارات التقليدية، حتى أن سكان البادية الأقوياء، الذين اعتادوا على السيادة في تجارة القوافل، أذهلهم قدرته على نقل مئات الأشخاص وأطنان من البضائع في وقت قصير، فأدركوا أن عصرًا جديدًا قد بزغ، يهدد مكاسبهم القديمة.

نهاية مؤقتة وإرث التخريب

لكن فصول المجد لم تدم طويلاً. فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وتزايد حدة الصراع في المنطقة، تحول قطار الحجاز من شريان حياة إلى هدف استراتيجي، ففي عام 1916، وخلال أحداث الثورة العربية الكبرى، تعرض الخط لهجمات متكررة ومنظمة، خاصة في الجزء الجنوبي منه. كانت التفجيرات تستهدف القضبان والجسور والقاطرات على يد القوات العربية المتحالفة مع البريطانيين، بقيادة لورنس العرب، بهدف شل حركة الإمدادات العثمانية وعزل القوات التركية في المدينة المنورة. توقفت الحركة على الخط بشكل فعلي بين عامي 1916 و1918، ومع انتهاء الحرب وسقوط الدولة العثمانية، لم يتمكن الخط من استعادة عافيته بشكل كامل، وتحولت المحطات إلى أنقاض، وتوقفت صافرات القطار عن الإعلان لوصول قوافل الحجاج والتجار.

جهود إقليمية لإعادة الإحياء

رغم المحاولات المتفرقة لإعادة تأهيله عبر السنين، لم يُكتب لها النجاح المنشود، ليظل قطار الحجاز في طي النسيان، شاهداً على ماضٍ مجيد ودرس في أهمية حماية البنى التحتية الحيوية.

واليوم، وفي خضم مساعي التعافي الاقتصادي التي تشهدها سوريا، برزت أهمية إعادة تأهيل شبكة السكك الحديدية ككل، وإحياء خط الحجاز بصفة خاصة، كأولوية استراتيجية. حيث بدأت كل من الأردن وتركيا الخطوات العملية لإعادة تفعيل خطوط السكك الحديدية التي تربطهما بسوريا، في تحرك يعيد طرح مشروع الخط الحجازي التاريخي إلى الواجهة. فبينما أعلنت عمّان عن استكمال المسح الفني لمسار القطار إلى درعا في جنوب سوريا تمهيداً لإطلاق رحلات سياحية، تعمل أنقرة على ترميم خط حديد يصل من حدودها في “ميدان أكبس” إلى مدينة حلب، في مشهد يفتح الباب أمام استعادة أحد أبرز مشاريع الربط الإقليمي في المنطقة. هذا التنسيق الإقليمي يؤكد الجدية في إعادة إحياء هذا الشريان الحيوي. السؤال الأهم هنا: هل يمكن لهذا المشروع أن يكون المحرك الذي يعيد الحياة للاقتصاد السوري؟ الإجابة تكمن في الدور المحوري الذي تلعبه السكك الحديدية في الاقتصاد الحديث، وفي الإمكانات المالية والعوائد المتوقعة.

إقرأ أيضاً: تقرير أمريكي يحذر: تركيا وقطر توسّعان نفوذهما الاقتصادي في سوريا بعد سقوط النظام

الركيزة الاقتصادية للسكك الحديدية

إن إعادة تشغيل قطار الحجاز، وما يرتبط به من تطوير للبنية التحتية للسكك الحديدية السورية، سيمثل دفعة هائلة للقطاع التجاري. فتخفيض تكاليف النقل والشحن، وسرعة وصول البضائع إلى الأسواق الإقليمية، سيعزز القدرة التنافسية للمنتجات السورية، سواء كانت زراعية أو صناعية. على سبيل المثال، يمكن لخطوط السكك الحديدية تقليل تكلفة نقل البضائع بنسبة تتراوح بين 30%   إلى  50% مقارنة بالنقل البري للمسافات الطويلة، مما ينعكس إيجاباً على أسعار المنتجات النهائية وقدرتها على المنافسة. لتصبح المنتجات السورية الطازجة تصل إلى الأسواق المجاورة في ساعات، أو المواد الخام الضرورية للصناعة وهي تُنقل بكفاءة عالية، مما يقلل من هدر الوقت والمال. هذا التحديث اللوجستي سيفتح آفاقاً جديدة أمام الصادرات والواردات، ووفقاً لتقديرات بعض الخبراء الاقتصاديين، يمكن أن تساهم هذه التحسينات في زيادة حجم التجارة الخارجية السورية بنسبة قد تتجاوز  20% في غضون السنوات الخمس الأولى من إعادة التشغيل الكامل للشبكة، مما يجعل سوريا مركزاً إقليمياً حيوياً للنقل والتبادل التجاري، مستفيدة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي كجسر يربط آسيا بأوروبا.

ولن يقتصر التأثير على التجارة فحسب؛ فإحياء السكك الحديدية سيلعب دوراً جوهرياً في تنشيط القطاع السياحي، خصوصاً مع تنامي الاهتمام بالسياحة الدينية والثقافية، فسهولة الوصول إلى المواقع الأثرية والدينية في سوريا ستجذب أعداداً أكبر من الزوار، مما ينعش الفنادق والمطاعم ومختلف الخدمات المرتبطة بالسياحة.

فرص العمل

بحسب دراسات صادرة عن البنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن كل مليون دولار يُستثمر في البنية التحتية للسكك الحديدية يمكن أن يخلق ما بين 15 إلى 20 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، ووفقاً لتصريح وزير النقل التركي “عبد القادر أورال أوغلو” أن نحو 50 كيلومترًا من الخط الواصل من الحدود التركية في ميدان أكبس إلى حلب قد دُمّرت خلال الحرب، وتقدر تكلفة مشروع إعادة تأهيله بين 50 و60 مليون يورو (56 إلى 68 مليون دولار) يعني حوالي ألف فرصة عمل من الوظائف الجديدة في مجالات البناء والصيانة والتشغيل، وقطاعات أخرى ستزدهر نتيجة تحسن البنية التحتية، وهذا بدوره سيعزز الدخل القومي ويحسن مستوى معيشة المواطنين. أما العائدات المالية المتوقعة من تشغيل القطاع، فقد تتجاوز مئات الملايين من الدولارات سنوياً من رسوم النقل والشحن وعوائد السياحة، بشرط اكتمال الشبكة وتكاملها مع الطرق الدولية.

إقرأ أيضاً: منطقة حرة وميناء جاف في إدلب: خطوة استراتيجية لتعزيز الربط الاقتصادي

مسار تاريخي وافاق المستقبل

ان المسار الأصلي لهذا الشريان الحيوي كان ينطلق من العاصمة السورية دمشق وبالتحديد من محطة القدم، ثم يتجه جنوباً عبر محافظتي درعا والقنيطرة في سوريا، ثم يواصل رحلته عبر الأراضي الأردنية نحو المملكة العربية السعودية وصولاً إلى المدينة المنورة. والخطوات العملية الآن تسعى لربطه بشبكة أوسع تمتد من تركيا، حيث كانت الخطوط الحديدية العثمانية تصل من إسطنبول عبر الأناضول إلى حلب، لتتصل شبكياً بالخطوط المتجهة جنوباً عبر حمص وحماة وصولاً إلى دمشق، مشكلة بذلك عموداً فقرياً يبدأ من تركيا وصولاً إلى السعودية.

سوريا: بوابة إقليمية لمستقبل مزدهر

ختاماً، إن قصة قطار الحجاز، من ماضيه العريق إلى آماله المستقبلية، ليست مجرد حديث عن قضبان أو صوت لهدير قاطرات على الأراضي السورية، بل هو إعادة نبض لشرايين التجارة والسياحة، محركٌ لآلاف فرص العمل، ومفتاحٌ لتدفق الاستثمارات. حين يصافح قطار اليوم أصداء الماضي، لن يقتصر أثره على تعزيز النمو الاقتصادي في سوريا فحسب، بل سيعيد رسم خريطة الربط الإقليمي، مؤكداً مكانة سوريا كمركز حيوي وقلب نابض للمنطقة، يُبنى على تراث عظيم نحو فجر جديد من الرخاء والازدهار المشترك.

إقرأ أيضاً: سوريا توقّع مذكرة تفاهم تاريخية بقيمة 7 مليارات دولار مع مجموعة شركات لتطوير قطاع الطاقة

إقرأ أيضا: أوتستراد غازي عنتاب – حلب يعود للخدمة قريباً.. شريان تجاري استراتيجي يربط تركيا بالخليج

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.