داما بوست – آلاء قجمي| “بتسلم عليكي ماما وبتقلك شتهتلك هالسكبة” كانت أول جملة كتبتها حين إعدادي لتقرير صحفي عن “سكبة رمضان” عندما كنت طالبة في الجامعة، وبعد الانتهاء منه وجدت التقرير تقليدي وملل، عبارات رنانة عن المحبة والألفة بين أهل الشام، تخلله حوار مع أهالي حي شعبي يسمى “حي التضامن” عن أصل تلك العادة وكيف تحولت لموروث شعبي ليس فقط في رمضان وإنما بالأيام العادية أيضاً.
وبعد مرور أكثر من 10 سنوات على إعداد ذلك التقرير، وما مر على رأس البلاد والعباد من حروب وأمراض وكوارث وأزمات اقتصادية، قصدت الحي نفسه لإعداد ذات المادة صحفية حول “سكبة رمضان”، وخرجت من الحي وفي رأسي ألف عبرة وعبرة.
الشيخوخة تصيب “سكبة رمضان”
بعد جائحة كورونا تحديداً بدأت ملامح “سكبة رمضان” تشيخ عاماً بعد عام حتى جاء زلزال شباط وقضى عليها نهائياً، هذا ما قالته السيدة أم عمر إحدى قاطنات حي التضامن في دمشق، مضيفة: “كل عام نفاجئ بوضع اقتصادي أسوء من قبله فضيق الحال المادي فرض علينا الاستغناء عن عادة السكبة لأن السفرة باتت خجولة وبالكاد تكفينا أنا وأفراد عائلتي الخمس خاصة بعد فاجعة الزلزال الذي حل بنا فعلى الرغم من أن دمشق لم تتأثر ظاهرياً ولكننا لم نقصر بحق أهالينا المتضررين”.
أما جارتها “أمل” فكان لها رأي آخر، فقالت”: “على الرغم من صعوبة تأمين الإفطار اليومي في رمضان إلا أننا نحاول الحفاظ على تلك العادة الرمضانية لما فيها من خير وبركة، بالطبع لا أستطيع ارسال سكبة يومية لجارتي ذات الحال السيء جداً ولكن أحاول قدر الإمكان إرسال طبق في الأسبوع أقل تقدير”، متحسرة على مشهد أولاد الحارة وهم يجوبون شوارعها حاملين أطباق رمضان.
في زمان يبعد أقل من 3 أعوام كانت “سكبة رمضان” عند الأسر السورية كعادة شرب القهوة ببساطتها، حتى أن الحجة “أم نذير” كانت تعتمد في بعض الأحيان على سكبة جاراتها في إفطارها، قائلة: “عمري يزيد عن 75 عاماً وعاصرت حروباً وأزمات، ولكن لم أتوقع أن نصل إلى يوم نفكر فيه بإرسال طبق من الطعام لجيراننا أم لا، وكيف سيكون حالنا في العام القادم، فمنذ عامين فقط كنت أعتمد في إفطاري على سكبة الجيران لأنني لم أطهو، أو مللت الطبخ على سبيل المثال، أما اليوم فنقول الحمدلله أننا نستطيع إكفاء أنفسنا فقط”.
سرٌ خطيرٌ جداً!
انضمت السفرة السورية إلى قائمة الأسرار الشخصية التي لا يجب الإفصاح عنها، ربما هرباً من النظرات التي قد تطالها أو رأفة بمن لا يستطيعون الحصول عليها.
إحدى قاطنات الحي اعتبرت سفرتها الرمضانية سراً لا يجب البوح به، قائلة: “أعيش أنا وزوجي وابنتي ذات الـ 10 أعوام، ومن بداية شهر رمضان وإفطارنا يقتصر على شوربة العدس أو البرغل واللبن المطبوخ بأحسن الأحوال، أتمنى لو أنني أستطيع إرسال سكبة لجارتي أو لأختي في الحارة المجاورة ولكنني أخجل، ربما حالي يكون أفضل من حالهم ولكن سفرتي باتت سراً من أسرار منزلي لا يجب البوح بها”.
وتابعت: “عندما يقرع جرس المنزل عند الإفطار يعم الصمت المنزل، لأنني لا أستطيع قبول أي طبق من جاراتي فليس بمقدوري الرد لا بمثله ولا أقل منه، وأظن بأن جيراني باتوا يعرفون هذا الأمر فجرس المنزل لم يعد يقرع عند الإفطار”.
على جانب آخر من أحياء دمشق الميسورة، تتحدث السيدة هيفاء عن تجربتها مع “سكبة رمضان”، قائلة: “أتجنب الحديث عن سفرتي الرمضانية أمام جيراني والأقارب لأننا أصبحنا في زمن لا نحسد عليه فما أستطيع الحصول عليه ربما يكون غاية يصعب تحقيقها عند غيري، إلا أنني أحافظ على إرسال سكبة رمضان إلى العائلات المحتاجة دون الإفصاح عن هويتي، منتقدة ما يتم نشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي من صور لولائم رمضانية.
أما جارتها سعاد فاعتبرت بأن سؤال “شو رح تفطروا اليوم” بات محرجاً في هذا الزمن الصعب، قائلة: “بات السؤال عن وجبة الإفطار حساساً نوعاً ما، وأرى ذلك بعيون زميلاتي في العمل عند سؤالهن عن وجبة الإفطار، وفي حال وجه السؤال لي، بصراحة أكذب ولا أصرح بالوجبة الحقيقية علّها تكون في نفس إحدى زميلاتي ولا تستطيع صنعها، أما عن سكبة رمضان فأعتقد بأنها انتهت منذ زمن فحالة المواطنين الاقتصادية (تعبانة كتير بس ماحدا حاسس)”.
أحجية الرقم 3!
يتربص شبح التضخم الأسواق السورية فإعداد سفرة رمضانية بأبسط أشكالها، لأسرة مكونة من 4 أشخاص تكلف أكثر من 100 ألف ل.س، أي 3 ملايين ل.س لتغطية إفطار 30 يوماً في رمضان.
المحلل الاقتصادي د. سامر أبو عمار أكد لشبكة “داما بوست” بأن الأسعار زادت بين 100 – 150% وسطياً مقارنة بالعام الفائت وخاصة المواد الغذائية.
وحول كلفة الإفطار اليومي لعائلة مكونة من 4 أشخاص، أفاد أبو عمار: “اذا أردنا أن نحسب كلفة سفرة رمضانية بأبسط اشكالها، هناك معايير عدة أولها، الاستناد على المعيار الذي أصدرته وزارة الأوقاف لإطعام المسكين وحددته بـ 25 الف، وبذلك تكون تكلفة الإفطار لـ 4 اشخاص هي 100 ألف”، مشيراً إلى أن صندوق النقد الدولي والمنظمات العالمية حددوا الحد الأدنى للفقر بـ 2 دولار أمريكي وبحسب السعر الرسمي للصرف، حوالي 27 ألف ل.س للشخص الواحد.
واستند المحلل الاقتصادي إلى معيار آخر وهو تكلفة الإفطار في المطاعم، قائلاً: “هناك معيار آخر يمكن الاستناد عليه وهو كلفة الإفطار التي تحددها المطاعم، فأي مطعم مهما بلغت درجته (3 -5) نجوم، تبلغ كلفة الإفطار فيه أقلها 180 ألف ل.س، وأعلاها 350 ألف ل.س للشخص الواحد”، موضحاً بأن نفقات الأسر في رمضان تختلف حسب الدخل والطبقة الاجتماعية.
وتابع: “إذا أردنا أن نحسب كلفة إفطار لعائلة مكونة من 4 أشخاص لـ 30 يوماً في رمضان، معتمدين على الحد الأدنى وهو 100 ألف ل.س فهو على الأقل 3 ملايين”.
الهبوط معطل لهذا السبب!
أكد المحلل الاقتصادي د. سامر أبو عمار أن تغير سعر الصرف في الاقتصاد السوري هو العامل الرئيسي لعدم استقرار الأسعار، معتبراً أن سعر الصرف هو نتيجة ومؤشر وليس سبب، فانخفاض العملة المحلية مقابل العملات الأخرى لها أسباب عدة، أبرزها انخفاض الإنتاج والناتج المحلي الإجمالي، وتدني ناتج السلع والخدمات وقلة الطلب عليها من الخارج، والميزان التجاري الخاسراً الذي لا يصب بصالح الإنتاج الوطني، ما يؤدي إلى انخفاض العملة المحلية مقابل العملات الأخرى، وبالتالي يؤثر بشكل جوهري على الأسعار.
وأضاف: “تتحسن العملة المحلية أحياناً لأسباب اقتصادية أو غير اقتصادية، وحصل ذلك بشكل طفيف تجاوز 10% قبيل شهر رمضان، بسبب الحوالات الخارجية والمساعدات الدولية التي تدخل في حسبة الميزان التجاري، إلا أن ذلك لم ينعكس على الأسعار في السوق، بسبب ممانعة التجار الذين يقولون بأنهم اشتروا بضائعهم بالغالي، وإذا باعوا بسعر أقل فسيخسرون، لأنهم يدركون بأن هذا التحسن هو آني وغير مستقر”.
وتابع: “هناك قناعة سائدة بأن سعر صرف الليرة السورية لن يكون مستقراً، بسبب أسس الاقتصاد الضعيفة وعدم امتلاكنا لبنية إنتاجية قوية، سواء بمجال السلع أو الخدمات، وبالتالي عدم القدرة على خلق ثقة باستمرار استقرار سعر الصرف”.
لم يكن التقرير الذي أعددته قبل سنوات تقليدياً ولا عادياً أبداً، بل كانت الوفرة ونعم الحياة آنذاك تجعلنا نبحث عما هو جدلي ومثير للانتباه، فلم نسمع سابقاً عن أحد مات من الجوع، أما اليوم يروي الجوع قصصاً عن ما تشتهيه بطون أصبحت خاوية، بظل الوضع الاقتصادي الصعب في سوريا.