في السويداء، لا سلام ولا حرب: إعادة تعريف النفوذ “الإسرائيلي” داخل سوريا

إنه ليس اتفاق سلام، بل إعلان هدنة بأحرف خفيفة، في مشهد يذكرنا، لا بمعاهدات كامب ديفيد أو أوسلو، بل بشيء أقرب إلى الخط الأزرق غير المُعترف به بين إسرائيل ولبنان، فهو مساحة رمادية من “اللااتفاق”، بحسب موقع سوريا الغد.

إقرأ أيضاً: دستور من رماد: كيف مهد الغياب السياسي لمجازر السويداء والساحل

إقرأ أيضاً: الشارع السوري المؤيد للشرع: الاتفاق مع الهجري استسلام مذل وإقرار بفشل الدولة

من الكواليس إلى الفعل الميداني: أي نوع من “التفاهم”؟

لا وثيقة نُشرت، ولا حكومة سورية قائمة دستوريا وقعت على نص، ولا طاولة جلست إليها الأطراف الرسمية، فما حدث، وفق ما رشح من تصريحات الوسيط الأمريكي، هو “فهمٌ” ميداني هش يعلّق القصف مؤقتا، ويمنح وحدات من الأمن السوري مهلة 48 ساعة لضبط الفصائل في محافظة السويداء، مقابل قبول ضمني بهجمات جوية إسرائيلية على أي تهديد “لمنطقة جبل العرب”، ولم يُسأل السكان، ولم تُستشر دمشق، إلا بما تسمح به السماء المفتوحة أمام الطائرات الإسرائيلية.

المقارنة المنهجية: بين اتفاق سلام ومجرد إذن دخول

في اتفاقات مصر 1979 والأردن 1994 وأوسلو 1993، كانت الدولة طرفا مقررا، والأرض والاعتراف والحماية القانونية عناصر مركزية، أما في السويداء، فالدولة السورية، بتركيبتها الجديدة أو المرتبكة، لم تقدّم ولم تحصل على شيء واضح، فلا انسحاب إسرائيلي، ولا اعتراف ثنائي، ولا حتى لجان مشتركة، بل مجرد سماح إسرائيلي قصير الأجل بانتشار داخلي لقوات يفترض أنها سيدة الأرض، وهذا وحده يعكس التحول الكبير من مفاوضات سيادية إلى هندسة داخلية قسرية.

ما الذي تغيّر منذ 1974؟ إسرائيل من جبهة إلى ضابط إيقاع

في مايو 1974، عُقد اتفاق فصل القوات بوساطة أمريكية بين سوريا و”إسرائيل”، وحدد خطوط التماس في الجولان، ومنطقة عازلة تحت رقابة أممية، أما في 2025، فلا خطوط تُرسم، بل مساحة داخل دولة تُعاد هندستها أمنيا، فمنطق الردع لم يعد يعتمد على تموضع بين طرفي الجبهة، بل في امتلاك القدرة على ضرب أهداف في العمق، وفي هذه الحالة محيط دمشق، وقيادات فصائلية “خارجة عن السيطرة”.

لا تكمن القوة في النصوص بل في القدرة على إعادة تشكيل البيئة، وهذا تحديدا ما فعلته “إسرائيل” في السويداء، حيث نقلت مركز ثقل الصراع من “الحدود الدولية” إلى “النسيج الأهلي الداخلي”، ومن صراع سيادة إلى صراع هويات متداخلة (دروز، بدو، عشائر، سنّة)، تتدخل فيه كـ”حامٍ مؤقت” لطرف ضد آخر، لكنها تظل خارج أي التزام ملزم طويل الأمد.

نصف قرار ونصف فوضى

ليست “إسرائيل” هي من يقرر بشكل مطلق العلاقات السورية الداخلية، فهي لا تملك أدوات حكم ولا قبولا محليا ولا غطاء قانونيا، لكنها تمارس سلطة أمر واقع، بشكل يشبه طريقة “حكام دمشق”، فتُقرّر متى تقصف، ومتى يُسمح للوحدات السورية بالدخول، وكم من الوقت تبقى.

بهذا المعنى، تتحول “إسرائيل” إلى فاعلٍ ضابطٍ لإيقاع الفوضى لا لبنية السلام، فلا تشارك في الحل، لكنها تُعدّل شروط الأزمة، ولا توقّع على اتفاق، لكنها تُرسي قواعد اشتباك جديدة بلا أوراق.

لا حوكمة، لا شمول، لا آلية رقابة

ما يجعل اتفاق السويداء أقرب إلى “حدث دبلوماسي إعلامي” منه إلى تسوية، هو غياب أي بنية رقابية، فلا قوات حفظ سلام، ولا لجان متابعة، ولا جدول زمني للتنفيذ، ولا حتى اعتراف رسمي من دمشق بأن ما جرى يُمثّلها.

الفصائل لم توقّع، وبعضها رفض الهدنة بشكل صريح، والبعض الآخر يتعامل معها كتراجع تكتيكي، فهذا الالتفاهم يُحكم من فوق وليس من داخل، ويُفرض بالقوة الجوية لا بالحوار المجتمعي أو السياسي.

السياق السوري: دولة في طور التحوّل، لا مركز يحكم

مع انتقال القيادة في سوريا من بشار الأسد إلى شخصية جديدة (أحمد الشرع) تُعاد صياغة موازين القوى، لكن هذا الانتقال لم يحمل معه عقدا اجتماعيا جديدا، بل مزيدا من الانكشاف الأمني والانقسامات الطائفية والمناطقية، وهنا تدخل “إسرائيل” مستغلة الفراغ لا للسلام، بل لإدارة حدوده الأمنية من عمق الداخل السوري.

ففي حين حصلت مصر على سيناء، والأردن على اعتراف حدودي ومياه مشتركة، والمغرب على دعم أمريكي لسيادته على الصحراء الغربية، فإن دمشق تحصل، في أفضل السيناريوهات، على “إذن دخول داخلي” لمدة يومين، مقابل ضبط جماعات محلية متمردة، فسوريا تُقايض على إدارتها المحلية المؤقتة، لا على أراضيها المحتلة.

سلوك جديد أم استكمال لمسار أبراهامي مقلوب؟

الاتفاقات الإبراهيمية (2020) كرّست مفهوم التطبيع دون فلسطين، مقابل حوافز سياسية أو اقتصادية، وما نراه في السويداء هو وجه آخر تطبيع لقوة “إسرائيل” الإقليمية كشرطي غير رسمي للأزمات المحلية، حتى دون تطبيع أو توقيع، بمعنى آخر أبعد من السلام، وأقرب إلى السيطرة الأمنية الظرفية.

عمليا لا مكسب سيادي، ولا مكافأة اقتصادية، ولا حتى خروج من قائمة الاستهداف، فسوريا بعكس غيرها من الدول التي فاوضت إسرائيل على مستقبلها تبدو الآن كأرض عبور لتفاهمات عابرة، لا كطرف يقرر مصيره، فهي ساحة تُدار من الخارج، لا طرفا يفاوض الداخل.

إسرائيل قوة تَشكيل، لا حَكم مشروع

بالمعايير السياسية والقانونية، لا يمكن القول إن إسرائيل أصبحت “مُقرِّراً كاملاً” في العلاقات السورية الداخلية. لكنها أصبحت، عبر تفوقها الجوي والدبلوماسي، قوة شكلانية قسرية” تفرض مؤقتا معادلات على رقعة محلية محددة، فلا تفاوض حقيقي، بل فرض قواعد اشتباك تتغيّر بتغير حسابات تل أبيب وتوازنات الداخل السوري.

هذا ليس “تفاهما”، بل حالة “استقرار مُعسكر”، حيث يكون السكون محكوماً بالخوف لا بالاتفاق، وبالتهديد لا بالشرعية، وهو ما يجعل اتفاق السويداء، رغم قصره وضبابيته، نقطة تحول، ولحظة إدراك أن النفوذ لم يعد يُقاس بالخرائط بل بمدى القدرة على تحديد من يعيش ومن يُقصَف في زاوية صغيرة من وطن هش.

 

إقرأ أيضاً: ‏لماذا لا تنتفض العشائر العربية لغزة كما انتفضت للسويداء؟

إقرأ أيضاً: هل يمهّد اتفاق وقف إطلاق النار في السويداء لبداية حكم ذاتي؟

 

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.