تحولات سوريا: من صعود هيئة تحرير الشام إلى ديناميكيات ما بعد الأسد (الجزء الثاني)

داما بوست -يوسف المصري

أبرز النقاط الجوهرية

  • صعود هيئة تحرير الشام: سيطرت هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) على الحكم في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024.
  • تحول الخطاب: تبنت الهيئة خطابًا براغماتيًا موجهًا نحو الشرعية الوطنية والدولية، متخليةً عن أيديولوجيتها الجهادية السابقة، وهو ما ظهر في انفتاحها على الغرب واحتمالية التفاوض مع إسرائيل.
  • ديناميكيات العلاقات الدولية: فتحت الهيئة قنوات اتصال مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وبدأت مفاوضات متقدمة مع إسرائيل، مما يعكس تحولاً جذريًا في استراتيجيتها الخارجية.

في ديسمبر 2024، شهدت سوريا تحولاً تاريخيًا مع سقوط نظام بشار الأسد، وتولي هيئة تحرير الشام (HTS)، بقيادة أحمد الشرع، المعروف باسم أبو محمد الجولاني، زمام الحكم. هذا الحدث لم يغير فقط خريطة السلطة الداخلية في سوريا، بل أثار تساؤلات عميقة حول مستقبل البلاد وعلاقاتها الدولية، خاصةً مع الدول الغربية وإسرائيل. يأتي هذا التطور بعد سنوات من الصراع، حيث تحولت هيئة تحرير الشام من جماعة جهادية مرتبطة بالقاعدة إلى لاعب سياسي وعسكري بارز، يعيد صياغة خطابه وسياساته بما يتماشى مع متطلبات الشرعية الدولية.

سقوط نظام الأسد وصعود هيئة تحرير الشام

العملية العسكرية والسيطرة على دمشق

بدأت فصول هذا التغيير في 27 نوفمبر 2024، عندما شنت غرفة عمليات الفتح المبين، التي تقودها هيئة تحرير الشام، هجومًا واسعًا تحت اسم “ردع العدوان”. هذا الهجوم، الذي انطلق من شمال غرب سوريا، أدى إلى سيطرة سريعة على مدن استراتيجية مثل حلب، حماة، حمص، وصولاً إلى دمشق. في غضون أقل من 11 يومًا، وتحديدًا في 8 ديسمبر 2024، سقط نظام الأسد بعد خروج بشار الأسد من البلاد. دخلت فصائل المعارضة المسلحة دمشق بدون مقاومة كبيرة، نتيجة لترتيبات مع الأجهزة الأمنية للنظام، مما أفسح المجال لهيئة تحرير الشام لتولي السلطة.

هذا التقدم السريع والفعال عكس تحولاً كبيرًا في القدرات العسكرية والتنظيمية لهيئة تحرير الشام، التي تمكنت من نقل نفوذها من معقلها التقليدي في إدلب إلى العاصمة السورية، مؤسسةً بذلك واقعًا جديدًا على الأرض. أصبحت هيئة تحرير الشام القوة العسكرية والسياسية الأبرز في المشهد السوري، مدعومةً بتشكيل حكومة مدنية تعرف بحكومة الإنقاذ لإدارة شؤون البلاد.

تحولات أيديولوجية وخطاب براغماتي

من الجهادية إلى الشرعية الدولية

تميز صعود الجولاني وهيئة تحرير الشام بتغير جذري في الخطاب. فبعد أن كانت الجماعة تعرف باسم “جبهة النصرة” وتصنف كفرع لتنظيم القاعدة، تبنت هيئة تحرير الشام خطابًا أكثر براغماتية يهدف إلى كسب الشرعية الوطنية والدولية. ظهر هذا التحول بوضوح في خطة الجولاني لإعادة بناء سوريا ورسائله الموجهة للأقليات والمجتمع الدولي، مؤكدًا على أن الجماعة مرت بتحولات أيديولوجية عبر السنوات. أشار الجولاني نفسه في مقابلات سابقة إلى رغبته في خروج القوات الأجنبية من سوريا وتأسيس نظام حكم يستند إلى العدل والاستقرار.

هذا التغيير لم يكن مجرد تغيير في الكلمات، بل ترافق مع جهود حثيثة لبناء مؤسسات إدارية وخدمية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وتطوير رؤية لحكم ما بعد الأسد. كان الهدف الأساسي هو إعادة تموضع الهيئة من فصيل جهادي إلى لاعب سياسي إقليمي يسعى لشرعنة وجوده وتجاوز موروثه الأيديولوجي المتشدد.

 

انفتاح على الغرب ودول أوروبية

قنوات اتصال ومحاولات كسب الدعم

بعد تولي هيئة تحرير الشام السلطة، بدأت في فتح قنوات اتصال ومفاوضات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. تهدف هذه المحاولات إلى كسب الاعتراف والدعم الدوليين لإدارة سوريا الجديدة. على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت قد أعلنت في السابق عن مكافآت لمن يدلي بمعلومات عن الجولاني، إلا أن السياق الجديد أظهر تحولًا نحو التفاعل، مدفوعًا بالمصالح الجيوسياسية المتبادلة في استقرار سوريا بعد سقوط الأسد.

هذا الانفتاح يمثل تناقضًا صارخًا مع الخطاب القديم للهيئة الذي كان يعادي أمريكا والغرب. يبدو أن الضرورات السياسية والأمنية دفعت الجولاني وإدارته إلى إعادة تقييم مواقفهم، مع التركيز على بناء علاقات تضمن الشرعية الدولية والاستقرار في المنطقة.

مفاوضات مع إسرائيل: تحول غير مسبوق

من العداء المعلن إلى المحادثات المتقدمة

من أكثر التطورات إثارة للدهشة، هي التقارير التي أشارت إلى وصول مفاوضات مباشرة بين السلطات السورية الجديدة (بقيادة هيئة تحرير الشام) وإسرائيل إلى مراحل متقدمة. وذلكك نظراً لخطابات سابقة كانت تتغنى بها الهيئة وزعيمها أبو محمد الجولاني بأنه بعد إسقاط الأسد سنصل إلى القدس.

تركز هذه المفاوضات على قضايا أمنية حساسة مثل وقف إطلاق النار ومستقبل مرتفعات الجولان. صرح الجولاني بنفسه بأن فرص إتمام الاتفاق أكبر من فرص الفشل، رغم تأكيده على أنه لن يكون “سلامًا شاملاً”.

 

مقارنة بين الخطاب القديم والجديد

تحولات أيديولوجية في القيادة

لفهم عمق التحول الذي شهدته هيئة تحرير الشام، من الضروري مقارنة خطابها ومواقفها الحالية بخطابها القديم. تاريخيًا، كانت الجماعة، تحت اسم جبهة النصرة، تتبنى خطابًا جهاديًا متشددًا يعادي الغرب ويصنف إسرائيل كعدو. كانت تصريحات الجولاني تندد بالاتفاقات الأمريكية الروسية، معتبرًا إياها مؤامرات ضد الشعب السوري.

الخطاب الجديد، بعد سقوط الأسد، يركز على بناء الدولة، والتعاون الدولي، ومعالجة قضايا الأمن الإقليمي. هذا التحول ليس مجرد تكتيك، بل يعكس تحولًا أيديولوجيًا محتملاً داخل القيادة، أو على الأقل براغماتية قوية للتكيف مع الواقع السياسي الجديد. يمكن تلخيص هذا التحول في الجدول التالي:

تحديات وآفاق مستقبلية

مسارات معقدة لإدارة الدولة والعلاقات الدولية

تواجه هيئة تحرير الشام تحديات داخلية وخارجية هائلة بعد توليها السلطة. داخليًا، يجب عليها إدارة دولة منهكة، وتوفير الخدمات الأساسية، وإعادة بناء البنى التحتية، وتحقيق المصالحة الوطنية. إنشاء حكومة هو خطوة أولى نحو بناء إطار إداري، لكن الشرعية الحقيقية ستأتي من قدرتها على تحقيق الاستقرار والرفاهية للمواطنين.

خارجيًا، يظل الاعتراف الدولي الكامل والدعم الاقتصادي أهدافًا حاسمة. على الرغم من فتح قنوات الاتصال مع الغرب، إلا أن الشكوك حول ماضي هيئة تحرير الشام كجماعة متطرفة يبقى محل شك دولي. تظل مسألة حقوق الإنسان والالتزامات الدولية محط مراقبة دقيقة من منظمات مثل هيومن رايتس ووتش، والتي ستركز على أي انتهاكات محتملة في مرحلة ما بعد الأسد.

إن مسار سوريا تحت قيادة هيئة تحرير الشام محفوف بالتعقيدات، وسيعتمد نجاحها على قدرتها على الموازنة بين متطلبات الداخل وتوقعات المجتمع الدولي، مع الاستمرار في التخلي عن الأيديولوجيات المتطرفة والتبني الكامل لنهج براغماتي ومسؤول.

تقييم السياسات الخارجية لهيئة تحرير الشام

مدى النجاح في الانفتاح الدبلوماسي

يُمكن تحليل مدى نجاح هيئة تحرير الشام في سياساتها الخارجية بعد سقوط الأسد من خلال عدة محاور، حيث يتطلب هذا التحليل رؤية شاملة لمواقف الدول الكبرى والإقليمية من التغييرات في سوريا. يعكس الرادار التالي تقييمًا افتراضيًا لفعالية الهيئة في بناء العلاقات الدبلوماسية مع أطراف مختلفة.

 

كما يُظهر الرسم البياني أعلاه، فإن فعالية السياسات الخارجية لهيئة تحرير الشام متفاوتة. بينما هناك تقدم ملحوظ في بناء قنوات اتصال مع الولايات المتحدة، يظل الاعتراف الأوروبي أكثر حذرًا. في حين أن المفاوضات مع إسرائيل متقدمة، فإنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة لتحقيق “سلام شامل”. أما الدعم الإقليمي فربما يكون أقل وضوحًا، ويعتمد بشكل كبير على المصالح المتغيرة للدول المجاورة.
يتطلب تقييم هذه التحولات أيضًا النظر في التحديات الداخلية التي تواجهها الهيئة، فبناء الثقة داخل سوريا بين مختلف الفئات السكانية والأقليات يظل حجر الزاوية لأي استقرار مستدام. هذه التحديات تُلقي بظلالها على مدى قبول المجتمع الدولي للإدارة الجديدة في دمشق.

 

خارطة طريق هيئة تحرير الشام: الرؤى والأهداف

تبني نهج شامل للحكم

لتعزيز فهمنا للتحولات التي تمر بها هيئة تحرير الشام، نقدم خريطة ذهنية توضح الرؤى والأهداف الرئيسية التي تتبناها القيادة الجديدة في سوريا. تُسلط هذه الخريطة الضوء على الجوانب المتعددة لخطتها لإدارة البلاد وعلاقاتها الخارجية.

تصورات حول التأثيرات الإقليمية والدولية

تداعيات التحول السوري على المنطقة والعالم

يمتد تأثير صعود هيئة تحرير الشام وسقوط نظام الأسد إلى ما هو أبعد من الحدود السورية، مما يخلق تداعيات إقليمية ودولية معقدة. يوضح الرسم البياني التالي تقديرًا للتأثيرات المحتملة على مختلف الأطراف الفاعلة في المنطقة والعالم.

الخاتمة

إن التحول الذي شهدته سوريا في ديسمبر 2024، مع صعود هيئة تحرير الشام وسقوط نظام الأسد، يمثل منعطفًا حاسمًا في تاريخ المنطقة. قيادة أحمد الشرع (الجولاني) للجماعة في هذا المسار، من فصيل جهادي إلى قوة حاكمة تسعى للتواصل مع الغرب والتفاوض مع إسرائيل، يبرز مدى تعقيد الديناميكيات السياسية والأمنية في سوريا والشرق الأوسط. يبقى مستقبل سوريا رهنًا بقدرة الإدارة الجديدة على التغلب على التحديات الداخلية والخارجية، وبناء دولة مستقرة ومقبولة دوليًا، مع التخلي الكامل عن أي بقايا لأيديولوجيات متطرفة.

إقرأ أيضاً: هيئة تحرير الشام: رحلة التحولات من الجهاد إلى البراغماتية، هل يمكن الوثوق بها؟ (الجزء الأول)

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.