مستقبل جماعة الإخوان في سوريا: بين إعادة التموضع والانقسام الداخلي (الجزء الرابع)
داما بوست -أسعد موسى
تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في سوريا شديد التعقيد، يمتد منذ تأسيسها في الربع الأول من القرن العشرين إلى يومنا هذا. مرّت الجماعة بمراحل متعددة من العمل السياسي والاجتماعي، من النشاط الدعوي، إلى المعارضة المسلحة، إلى النشاط السياسي في المنفى. واليوم، وبعد التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا بسقوط النظام السابق، يطرح سؤال محوري: ما هو مستقبل الإخوان المسلمين في سوريا على المستويين الشعبي والسياسي؟
الإخوان بين الماضي والحاضر
لفهم مستقبل الجماعة لا بد من العودة إلى جذورها وأهدافها الأساسية. فمنذ نشأتها، كان الهدف المركزي للإخوان المسلمين هو الوصول إلى السلطة. وقد اعتمدت الجماعة في مسارها على مبدأ ميكافيللي “الغاية تبرر الوسيلة”، الأمر الذي انعكس في تنوع أدواتها وأساليبها: بدءاً بالمعارضة السلمية، مروراً بالكفاح المسلح، وصولاً إلى انتهاج الدبلوماسية المرنة في المرحلة الراهنة.
في التجربة السورية، كان للجماعة حضور بارز في الحياة السياسية بعد تأسيسها، ثم انتقالها لتشكيل جناح عسكري ومواجهة مسلحة مع نظام الأسد، ثم تراجع حضورهم إلى الخارج، حيث أعادوا بناء شبكاتهم في المنفى، وانتقلوا إلى المعارضة السلمية والعسكرية مع اندلاع أحداث 2011 وما بعدها.
إقرأ أيضاً: الإخوان في سوريا 2025: هل هو تموضع سياسي أم محاولة للفرار من المسؤولية؟
التكيف مع التحولات الراهنة
اليوم، يواجه الإخوان مشهداً مختلفاً جذرياً. النظام السابق قد سقط، وحلّ محله حكم سني بتركيبة عسكرية وسياسية جديدة. وهذا الواقع يفرض على الجماعة حذرًا مضاعفًا: فالمجاهرة بالمعارضة قد تؤدي إلى انقسامات في البيئة السنية، وهو ما لا يخدم مصالحها على المدى القريب. لذلك، اختارت الجماعة استراتيجية “الناصح الأمين”، عبر خطابٍ يبدو أقرب إلى النصح والتوجيه بدلاً من المواجهة المباشرة.
من جهة أخرى، الأخطاء التي وقع فيها الحكم الجديد، خاصة في مناطق مثل الساحل والسويداء، قد تفتح نافذة للإخوان لتقديم أنفسهم كبديل “معتدل” يوازن بين الصرامة الدينية والانفتاح السياسي، ويملأ فراغًا قد يتركه تراجع السلطة الحالية.
الأبعاد الإقليمية والدولية
يصعب فصل مستقبل الإخوان في سوريا عن البعد الإقليمي. فالجماعة ترتبط تاريخياً بقطر وتركيا، وقد استفادت لعقود من دعمهما السياسي والمالي. وفي السياق السوري الجديد، تظل هذه العلاقة عامل توازن: فهي من جهة تمنع الجماعة من إعلان معارضة صريحة للنظام الجديد المدعوم من هاتين الدولتين، لكنها من جهة أخرى تجعل الإخوان ورقة احتياطية قد تلجأ إليها الدوحة أو أنقرة إذا تعثرت رهاناتهما الحالية.
كذلك، لا يمكن تجاهل الموقف الدولي من الإخوان، فالمجتمع الدولي ينظر إليهم بعيون متباينة بين من يعتبرهم قوة سياسية يمكن أن تندمج في المشهد الديمقراطي، ومن يرى فيهم خطراً على الاستقرار. هذا الانقسام ينعكس مباشرة على موقعهم في أي صياغة مستقبلية لسوريا.
من المفيد النظر إلى تجارب الإخوان المسلمين في المنطقة لاستشراف مستقبلهم في سوريا. فالتجربة المصرية، التي انتهت إلى صدام مع مؤسسات الدولة، أظهرت حدود الاندماج السريع في الحكم دون بناء توافقات أوسع. أما التجربة التونسية فقد كشفت هشاشة التوازنات في الأنظمة الانتقالية، حيث أدت الخلافات الداخلية والضغوط السياسية إلى تقليص نفوذ حركة النهضة. في المقابل، يقدم النموذج التركي حالة مختلفة، إذ استطاع حزب العدالة والتنمية أن يوظف خلفيته الإسلامية في إطار براغماتي أتاح له الاستمرار في السلطة لسنوات طويلة. كما أن التجربة المغربية مع حزب العدالة والتنمية تعكس تحديات أخرى، حيث شارك الحزب في الحكم ضمن نظام ملكي حافظ على مركزية السلطة، وهو ما أدى لاحقاً إلى تراجع شعبيته بشكل ملحوظ، هذه الأمثلة توضح أن مستقبل الإخوان في سوريا سيتأثر بقدرتهم على استيعاب دروس الإقليم، والبحث عن صيغة محلية خاصة تراعي تعقيدات الواقع السوري بدلاً من استنساخ تجارب الآخرين.
إقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون في سوريا يصدرون بياناً شاملاً: رؤية للمرحلة الجديدة بعد التحرير
الحضور الشعبي وإمكانات التوسع
على المستوى الشعبي، لا يزال موقف السوريين من الإخوان محاطاً بالتباين. فالماضي الدموي مع النظام السابق، والتجربة الإخوانية في مصر وتونس، تجعل شريحة من السوريين متوجسة من عودة الجماعة. في المقابل، يرى آخرون أن الإخوان قادرون على لعب دور “جسر” يخفف من الصورة النمطية التي قد تلتصق بالسنّة في سورية باعتبارهم تياراً متطرفاً أو مرتبطاً بالتيارات السلفية.
التنظيم يمتلك نقاط قوة لا يستهان بها:
- جذور تاريخية محلية في مختلف المحافظات.
- تجربة إقليمية واسعة ما بين نجاحات في تركيا وقطر، وتجارب متعثرة في مصر وتونس.
- بنية تنظيمية داخلية وخارجية قادرة على إعادة الانتشار بسرعة.
- قدرات تمويلية تسمح له ببناء مؤسسات اجتماعية وسياسية.
هذه العوامل مجتمعة قد تساعد الجماعة على إعادة التموضع شعبياً، خصوصاً في ظل غياب أطر سياسية جامعة أو أحزاب قادرة على ملء الفراغ.
وفي سياق الحضور الشعبي فالجماعة تاريخياً اعتمدت على العمل الأهلي والخدمات التعليمية والصحية والإغاثية كأداة لبناء قاعدة شعبية وتثبيت حضورها. وفي المشهد السوري الراهن، حيث تعاني مؤسسات الدولة من ضعف كبير وتراجع في قدرتها على تلبية حاجات المواطنين، قد يشكل العمل المدني والإغاثي للإخوان مدخلاً مهماً لإعادة بناء الثقة مع المجتمع. وإذا استطاعت الجماعة أن تقدم نموذجاً خدمياً فعالاً بعيداً عن الطابع الأيديولوجي الصارم، فإن ذلك قد يمنحها موقعاً مميزاً في الحياة العامة ويعزز فرصها في كسب شرائح واسعة من السوريين الباحثين عن الاستقرار والدعم.
الاحتمالات السياسية
سياسياً، يفتح المشهد السوري الراهن فرصاً أمام الإخوان، خصوصاً مع حل معظم الأحزاب والتيارات السياسية. هذا الفراغ يمكن أن يمنحهم مجالاً لتأسيس حزب سياسي علني، يحظى بقاعدة جماهيرية ويشارك في الانتخابات المقبلة.
مع ذلك، تواجه الجماعة تحديات كبرى:
- المنافسة مع التيارات السلفية التي ما تزال تحظى بقوة عسكرية وشعبية في بعض المناطق.
- مقاومة بعض النخب السورية التي ترى في الإخوان تهديداً لمدنية الدولة.
- الانقسام الداخلي بين أجنحة الجماعة في الخارج والداخل، وما إذا كانت قادرة على صياغة رؤية موحدة تتماشى مع الواقع الجديد.
السيناريوهات المستقبلية
يمكن استشراف عدة سيناريوهات لمستقبل الجماعة في سوريا:
- الاندماج السياسي التدريجي: عبر تشكيل حزب سياسي مرخّص يشارك في العملية السياسية ويدخل البرلمان.
- التموضع كبديل معتدل: في حال فشل الحكم الحالي أو تعثره، قد تعرض الجماعة نفسها كخيار وسط يجمع بين الهوية السنية والانفتاح السياسي.
- العودة إلى العمل الدعوي والاجتماعي: إذا ضاقت المساحات السياسية، قد يكتفي الإخوان بتعزيز حضورهم عبر الجمعيات والمنظمات.
- الانقسام أو التراجع: في حال فشلهم في إدارة خلافاتهم الداخلية أو مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية.
مستقبل الإخوان المسلمين في سوريا يبقى مفتوحاً على احتمالات متعددة، بين فرصة الانخراط في العملية السياسية كقوة منظمة تمتلك خبرة واسعة، وبين خطر التراجع أو الإقصاء في حال عجزت عن التكيف مع التوازنات الجديدة. ما يبدو مؤكداً هو أن الجماعة، بحكم تاريخها وانتشارها وعلاقاتها الإقليمية، ستظل جزءاً من المعادلة السورية، سواء كفاعل مباشر في الحكم أو كورقة مؤثرة على أطراف المشهد السياسي.
بهذا المعنى، يبقى مستقبلهم رهناً بقدرتهم على الموازنة بين طموحاتهم التاريخية في السلطة، وضرورات المرحلة التي تتطلب مرونة أكبر وانفتاحاً على شراكات جديدة مع القوى السياسية والاجتماعية السورية.
إقرأ أيضاً: بيان الإخوان المسلمين في سوريا بعد سقوط النظام: تحوّل في الخطاب أم مناورة سياسية؟ (الجزء الأول)
إقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون في سوريا: من الحضور الشعبي إلى العمل في المنفى (الجزء الثاني)
إقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون في سوريا: من الغياب القسري إلى احتمالات العودة (الجزء الثالث)