لقاءات دمشق وتل أبيب: تفاهمات أمنية أم بداية تطبيع سوري إسرائيلي؟

منذ كانون الثاني 2025 وحتى اللحظة، جرت سلسلة لقاءات بين دمشق و”تل أبيب” على مستويات متباينة، تتراوح بين القنوات غير المباشرة برعاية إماراتية والحوارات المباشرة في باريس برعاية أميركية، وهذا التحوّل في هندسة التواصل بين الطرفين يفتح باب التساؤل حول ما إذا كنا أمام مسار تكتيكي مؤقت يهدف إلى إدارة الأزمة، أم بداية إعادة هندسة لموقع سوريا الإقليمي، وفق شروط ما بعد الحرب، وأولويات ما بعد 7 تشرين الأول، بحسب موقع سوريا الغد.

تحوّل في المنهج دون أن يصاحبه تغيير في البنية

التاريخ لا يتحرك في خطوط مستقيمة، لكنه يترك آثارا يمكن تتبّعها، فمنذ اتفاق فصل القوات عام 1974، تميزت العلاقة بين سوريا و”إسرائيل” بجمود رسمي قائم على حالة اللاسلم واللاحرب، مع حذر متبادل وضبط إيقاع الاشتباك، وطوال أربعة عقود، لم تنقطع المحاولات السرية والعلنية لكسر هذا الجمود؛ بدءا من مفاوضات مدريد 1991، فواي ريفر 1996، ثم محادثات شبردزتاون 2000، وصولا إلى الوساطة التركية عام 2008، قبل أن توقف حرب غزة الأولى محاولات أنقرة في التوسط بين سوريا و”إسرائيل”

لكن ما يجري اليوم لا يمكن قراءته كاستمرار لتلك الديناميكيات، فالنظام السوري الجديد، لم يعد يمتلك أدوات الدولة الوطنية، بل يتحرك ضمن هامش مرسوم بين الرعاة الخارجيين، واللقاءات المسجلة منذ أيار 2025، عبر الإمارات ولاحقا في باريس، تُظهر استعدادا متزايدا من هذا النظام للتقاطع مع سرديات “إسرائيل” حول التهدئة والشرعية، دون امتلاك مشروع وطني واضح أو غطاء شعبي جامع.

تصريحات الشرع: غياب العداء أم سعي للشرعية؟

“في هذا السياق، لا يمكن تجاهل دلالات تصريحات الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع الأخيرة، التي تحدث فيها عن ضرورة “الخروج من ثقافة العداء العقيم” تجاه “إسرائيل”، فهذه التصريحات، وإن بدت عقلانية في ظاهرها، تصدر عن شخصية صعدت إلى موقع السلطة في مرحلة انتقالية شديدة الهشاشة، وتفتقر إلى شرعية سياسية راسخة، كما تكشف عن محاولة مبكرة لتثبيت موقع الحكم الجديد خارجيا عبر تبنّي ملف العلاقة مع “إسرائيل” كأداة لاكتساب الاعتراف الدولي، بدل أن يكون جزءا من رؤية استراتيجية تستند إلى إجماع وطني أو توازن قوى فعلي.”

إن هذه المقاربة لا تندرج ضمن منطق الدولة، بل تفضح غيابها؛ غياب المؤسسات، وغياب الرؤية، وغياب مشروع الدولة ذاته، ما يجعل أي تفاهمات مع “إسرائيل” جزءا من صفقة هشّة، لا من هندسة إقليمية رشيدة.

باريس بدلا من جنيف: الرمزية الجيوسياسية للمكان

انعقاد اللقاءات في باريس وليس في جنيف أو نيويورك يتجاوز البعد البروتوكولي، ففرنسا التي خسرت نفوذها التقليدي في لبنان وسوريا، تحاول اليوم لعب دور الوسيط المحايد الموثوق به بدعم أميركي، بينما تبقى واشنطن المخرج الوحيد الممكن لأي تفاهمات ذات صبغة استراتيجية.

حضور المبعوث الأميركي توم براك في جولتي تموز وآب، وتأكيد الخارجية السورية على الاجتماع المباشر، يعكس استعدادا سياسيا غير مسبوق لتوسيع نطاق التهدئة، وإن في ظل فراغ سيادي داخلي.

الجبهة الجنوبية: بين التهدئة والاستتباع

الملفات المطروحة في المحادثات من خفض التصعيد جنوبا، وإعادة تفعيل اتفاق فصل القوات لعام 1974، وعدم التدخل المتبادل، تكشف أن دمشق تسعى إلى تحييد جبهة الجنوب ضمن منطق إدارة الصراع، لا حله، والتقارير التي تحدّثت عن إمكانية إدخال قوات أميركية ضمن ترتيبات أمنية قرب الجولان تمثل، إن صحّت، تحوّلا نوعيا في المعادلة عبر التحول من قوة فض نزاع أممية (UNDOF) إلى شراكة أمنية أميركية – سورية بحكم الأمر الواقع.

لكن هذه التهدئة محفوفة بمخاطر الاستتباع؛ فتتحوّل من آلية تهدئة متبادلة إلى صيغة تبعية سياسية أو أمنية، تُفرض فيها ترتيبات ميدانية دون قدرة دمشق على مراجعتها أو تعديلها، ففي سيناريو يشبه جنوب لبنان بين 1996 و2006، ستجد سوريا نفسها أمام واقع أمني جديد تتحكّم فيه “إسرائيل” ضمن حدود التهدئة، بينما يتم عزل دمشق وإعادة ترسيم مناطق النفوذ على نحو أحادي.

دور الإمارات: وسيط أم متقدّم إقليمي؟

الوساطة الإماراتية التي انطلقت في أيار ليست تفصيلا دبلوماسيا؛ بل تعبير عن انتقال الإمارات من دور الوسيط إلى موقع المتقدّم في صياغة النظام الإقليمي الجديد، فأبوظبي، التي طبّعت مع “إسرائيل” وتملك قنوات نفوذ في دمشق، تعمل على فتح مسار مزدوج، الأول تقني أمني يبدأ بتهدئة الجنوب، والثاني مسار سياسي أوسع يؤدي إلى تطبيع تدريجي، كما تحدثت بعض التقارير.

لكن هذه القراءة تصطدم بحقائق الأرض؛ فالوضع الداخلي في سوريا، وتركيبة التحالفات الإقليمية، وغياب الدولة المركزية، لا تتيح قفزا استراتيجيا نحو التطبيع الشامل.

المعضلة البنيوية: الجولان وعُقدة السيادة

“يبقى الجولان، نظريا، العقدة البنيوية لأي تسوية دائمة، لكن اللافت في اللحظة الراهنة أن النظام السوري الانتقالي لم يُصدر أي موقف واضح يكرّس الجولان كملف سيادي غير قابل للتنازل، ما يثير تساؤلات جدية حول أولوياته وحدود رؤيته الوطنية.

ففي حين تسعى “إسرائيل” إلى تحويل السيطرة على الجولان إلى واقع قانوني دولي معترف به، تبدو دمشق الجديدة منشغلة بتثبيت شرعيتها داخليا وخارجيا أكثر من اهتمامها بخوض معركة استعادة السيادة، وما يجري اليوم لا يعدو كونه إدارة تقنية لمساحة النزاع، ضمن سقف منخفض من الطموحات، دون أي التزام أو رؤية نهائية، بينما تبقى سيناريوهات التطبيع والترتيبات الأمنية المتقدمة في إطار التحليلات، لا الوقائع.

الحقل السياسي الداخلي: بين الهشاشة والإنكار

إحدى العقبات الجوهرية هي الشرعية الداخلية لهذا المسار، فالرأي العام السوري، وإن أُخضع لإعلام رسمي محدود، ما يزال يرى في أي تفاهم مع “إسرائيل” خروجا عن الثوابت، في ظل غياب حل عادل لقضية الجولان أو موقف واضح من الاحتلال.

كما أن غياب بنية سياسية مستقرة، وتعدد مراكز النفوذ داخل سوريا ما بعد الحرب، يفرضان قيودا على حرية القرار التفاوضي، فكل خطوة تُقاس بميزان التوازنات بين الفاعلين الداخليين والداعمين الخارجيين، لا على أساس مصلحة وطنية موحدة أو رؤية استراتيجية جامعة.

إلى أين؟

لا تُقاس التحولات السياسية بالنيات أو الخطابات، بل بما تغيّره من موازين قوى على الأرض، وحتى الآن، اللقاءات السورية–”الإسرائيلية” تظلّ محاولات احتواء للتوتر في الجنوب، وتجاوب سوري لضغوط إقليمية متصاعدة، واستيعاب للفراغ الاستراتيجي الذي خلفه انتهاء نظام البعث.

فهل ما يجري مقدمة لهندسة شرق أوسط جديد تبدأ من دمشق؟ أم أنها فصل جديد من فصول التفاوض العبثي، حيث تُدار الأزمات بدلا من حلّها؟

الأرجح أن المسار ما زال هشا، ويتقدّم على حافة تناقضات داخلية وخارجية يصعب ترويضها، وهو ما يجعل كل لقاء جديد مجرد خطوة في رقصة طويلة بين الشك والاحتمال.

 

إقرأ أيضاً: هل تتجه سوريا وإسرائيل نحو اتفاق أمني؟

إقرأ أيضاً: لقاء رسمي سوري إسرائيلي في باريس يثير جدلاً واسعاً وانتقادات حادة

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.