سوريا 2025: عندما يتحوّل الخطاب الطائفي إلى جمر تحت الرماد

⦁ تصاعد مريع: شهد عام 2025 تصعيداً حاداً في الخطاب الطائفي والعنصري في سوريا، خصوصاً بعد سقوط نظام بشار الأسد، مما حوّل التوترات السياسية إلى انقسامات مجتمعية عميقة، تميزت بشيطنة الآخر وشرعنة العنف.
⦁ محركات الكراهية: يتغذى هذا الخطاب من أطراف متعددة تشمل قوى سياسية وعسكرية تسعى لتثبيت النفوذ، منابر دينية متشددة، وإعلام يلعب دوراً محرضاً، بالإضافة إلى دور حاسم لمنصات التواصل الاجتماعي والحسابات الوهمية في نشر الكراهية وتحويلها إلى عنف ميداني.
⦁ الأقليات تحت المجهر: تتعرض الأقليات لاستهداف مزدوج على أسس طائفية وإثنية ومناطقية، مع توثيق حالات من المجازر والانتهاكات في الساحل والسويداء وحمص، مما يعمق الشرخ المجتمعي ويبرز فراغاً حكومياً في مواجهة هذه التحديات.
⦁ تأصيل الكراهية: الخطاب الطائفي والعنصري لم يعد مجرد خطاب سياسي، بل أصبح جزءًا من اللغة اليومية والثقافة المتداولة، مما يساهم في تأصيل الكراهية وتقبلها.
⦁ دورة العنف: يتجاوز الخطاب مجرد الكلمات ليتحول إلى عنف ملموس وجرائم بدافع طائفي، تتفاقم بسبب ضعف آليات المحاسبة والإفلات من العقاب.
⦁ مقاومة هشة: على الرغم من وجود مبادرات مجتمعية وإعلامية لمواجهة هذا الخطاب، إلا أن تأثيرها غالبًا ما يبقى محدودًا أمام انتشار التحريض وتحديات الوصول الشامل.

 

بعد سنوات من النزاع والتحولات السياسية الجذرية، وجدت سوريا نفسها في عام 2025 تواجه تحدياً داخلياً مريراً يتمثل في تصاعد الخطاب الطائفي والعنصري. فمع سقوط نظام بشار الأسد، تحولت التوترات الكامنة إلى انفجار مجتمعي، حيث أصبحت الهويات الفرعية من طائفية وعرقية مناطقية، أدوات للتحشيد والصراع، مهددة بذلك النسيج الاجتماعي الهش للبلاد. هذا الخطاب لم يعد مجرد تعبئة سياسية، بل أصبح وقوداً لانتهاكات ميدانية وتعميق للصدوع الاجتماعية التي بدأت بالتشكل منذ بداية الأزمة.

ملامح الخطاب الطائفي والعنصري في سوريا 2025:

في عام 2025، شهد الخطاب الطائفي والعنصري في سوريا تبلوراً وتصعيداً ملحوظاً، حيث اتسم بعدة ملامح رئيسية تعكس حجم الأزمة المجتمعية التي تمر بها البلاد.

التصنيف الطائفي والإثني للمجتمع:

تصاعد استخدام التصنيفات الطائفية والإثنية بشكل حاد، حيث بات السوريون يُصنفون بشكل متزايد بناءً على انتمائهم الديني (علويون، سنة، دروز) أو العرقي (عرب، كرد، تركمان). هذا التصنيف لم يكن مجرد تحديد للهوية، بل تحوّل إلى أداة لتقسيم المجتمع وتغذية الأحقاد. على سبيل المثال، بات يُنظر إلى الكردي كـ”انفصالي”، والشيعي والعلوي كـ”كافر”، والدرزي كـ”مشروع قتل”. هذه المفردات التي أصبحت شائعة تعكس مدى تغلغل الكراهية في الخطاب اليومي والعام.

خطاب الكراهية وتبرير العنف:

اتسم الخطاب بتركيز كبير على “التطهير” أو “الانتقام”، مما يبرر العنف والإقصاء ضد المكونات الأخرى. ظهرت دعوات صريحة لـ”الجهاد” على الأقليات، مع تهديدات بـ”جيوش جرارة” لمن لا يمتثل. هذا الخطاب لم يقتصر على مجموعات متطرفة، بل تسرب إلى بعض المظاهرات التي رفعت شعارات تفريقية، مما يدل على قبول جزء من المجتمع لهذا النوع من الخطاب.

تزايد الكراهية على المنصات الرقمية والإعلام:

أصبحت المنصات الرقمية ووسائل الإعلام بيئة خصبة لانتشار خطاب الكراهية والتحريض. يتم ربط المكونات الاجتماعية بالصراع السياسي، وتعبئة القوى المحلية والعسكرية عبر هذه الوسائل. التقارير الدولية ووسائط الأخبار كشفت عن تعاظم صور التمييز والاستهداف بناءً على الانتماء الديني أو الطائفي، خاصة في مناطق حساسة كالساحل والسويداء.

رسم بياني يوضح شدة الجوانب المختلفة للخطاب الطائفي في سوريا عام 2025، حيث يبرز مدى حدته وانتشاره في مختلف الأصعدة.

من يغذّي الخطاب الطائفي في سوريا؟

يتغذى الخطاب الطائفي في سوريا من شبكة معقدة من الفاعلين والأدوات، مما يعكس طبيعة الأزمة متعددة الأوجه.

دور القوى السياسية والفاعلين العسكريين:

تُعد القوى السياسية والفاعلون العسكريون من أبرز الجهات التي تغذي هذا الخطاب. فمع غياب السياسة كمساحة مشتركة لحل النزاعات، تحولت الطائفية إلى أداة أساسية لتثبيت النفوذ، شيطنة الخصوم، وشرعنة العنف أو الإقصاء. القوى الموالية تستخدم الخطاب الطائفي كآلية للحفاظ على سيطرتها وتقسيم الرأي العام، بينما الفصائل العسكرية المرتبطة بالحكم الجديد تستثمر التوترات الطائفية لتعزيز وجودها وسيطرتها الميدانية.
⦁ تثبيت النفوذ: يتم عبر بناء ولاءات طائفية وإنشاء جيوب تحكمها الولاءات المذهبية أو العرقية، مع تقديم “التعايش” كإطار شكلي يخفي تحكمًا مركزيًا طائفياً.
⦁ شيطنة الخصوم: تتم عبر تصوير الخصوم السياسيين كتهديد وجودي للمكونات الأخرى، وتصنيفهم بـ”الكفر” أو “الخيانة” أو “الانفصالية”.
⦁ شرعنة العنف أو الإقصاء: يتم بتبرير الأعمال العدائية والانتهاكات ضد الأقليات أو المكونات الأخرى، واستغلال المخاوف المجتمعية لتغذية الانقسام.

أمثلة من تصريحات رسمية وشبه رسمية:

على الرغم من وعود الحكومة السورية المؤقتة بوقف العنف والخطاب الطائفي، إلا أن هناك أمثلة تشير إلى عكس ذلك. ففي بعض المظاهرات، ارتفعت دعوات تشتم العلويين، وتحقر الدروز والأكراد بعبارات مهينة. وفي المقابل، صنفت السلطة مظاهرات مطالبة علوية كتهديد للشرعية، رغم أن شعاراتها كانت محدودة بوقف القتل وخطف النساء. وزير الإعلام السوري نفسه دعا إلى تجريم خطاب الكراهية والتحريض الطائفي كأولوية وطنية، مما يشير إلى محاولات رسمية لمعالجة الظاهرة، لكن تطبيقها يظل تحدياً كبيراً.

منصات التواصل: المسرح الأكبر للكراهية:

أصبحت منصات التواصل الاجتماعي هي الفضاء الأوسع والأخطر لانتشار الخطاب الطائفي والعنصري في سوريا، حيث تتحول هذه المنصات إلى مسرح للكراهية الجماعية.

دور الحسابات الوهمية والذباب الإلكتروني:

تلعب الحسابات الوهمية والذباب الإلكتروني دوراً محورياً في تكبير الرسائل التحريضية وتوجيه النقاش العام نحو الانقسام. هذه الحسابات تضخم الخطاب الطائفي وتخلق قنوات لتسريبه إلى شرائح أوسع من الجمهور، مما يزيد من حدة الاستقطاب.

الحملات المنسقة وخطاب التحريض الجماعي:

تنتشر حملات منسقة ومنظمة على وسائل التواصل الاجتماعي، تهدف إلى التحريض الجماعي ضد مكونات معينة. هذه الحملات لا تقتصر على الفضاء الرقمي، بل تمتد إلى الواقع من خلال تجمعات وتوترات ميدانية في مناطق متعددة. التقرير الذي كشفت عنه بي بي سي أظهر أن هناك شبكات خارجية تغذي الطائفية وخطاب الكراهية في سوريا، خاصة بعد سقوط النظام.

كيف تنتقل الكراهية من الفضاء الرقمي إلى الواقع؟

تتم هذه العملية عبر عدة آليات. أولاً، يعمل الخطاب الرقمي على تطبيع الكراهية وتجريد “الآخر” من إنسانيته. ثانياً، تتحول الدعوات الافتراضية إلى حشد جماهيري في الشارع، مما يؤدي إلى توترات ميدانية واعتداءات موجهة ضد مكونات محددة. وقد وثقت حالات عديدة، مثل حملات التشهير الإلكترونية التي أربكت الإعلام، والتي سرعان ما تحولت إلى أعمال عنف حقيقية.

خريطة ذهنية توضح الأبعاد المتعددة للخطاب الطائفي في سوريا عام 2025، من ملامحه ومغذياته إلى آثاره الكارثية على المجتمع.

الإعلام السوري: ناقل أم محرض؟

يتأرجح دور الإعلام السوري بين كونه ناقلاً للواقع أو محرضاً على الانقسام. في عام 2025، تبين أن الإعلام في كثير من الأحيان لعب دوراً تحريضياً، أكثر من كونه محايداً.

الخلط بين النقد السياسي والتحريض:

يخلط الإعلام السوري، سواء الرسمي أو شبه الرسمي، بين النقد السياسي المشروع والتحريض الطائفي. يستخدم مصطلح “الطائفية” بشكل انتقائي لنزع الشرعية عن المعارضة، ويُتهم الإعلاميون بإثارة النعرات لضبط الرأي العام. وتشير التقارير إلى أن خُمس المنتجات الإعلامية تبث خطاب كراهية، مما يعكس مدى تغلغل هذه الظاهرة في وسائل الإعلام.

مفردات شائعة تعكس تصنيفاً طائفياً أو عرقياً:

تستخدم وسائل الإعلام مفردات مثل “كافر”، “خونة”، “عرقيون”، “انفصالي”، “مشروع قتل” بشكل متزايد لتصنيف المكونات المجتمعية. هذه المفردات لا تساهم فقط في شيطنة الآخر، بل تعمق أيضاً من الانقسامات الطائفية والإثنية، خاصة في تغطية الأحداث الحساسة في المناطق الجنوبية والساحلية.

دور المنابر الدينية في تكريس الانقسام أو احتوائه:

تتباين أدوار المنابر الدينية في سوريا، فبينما يسعى البعض لاحتواء الخطاب الطائفي، يعمل آخرون على تكريس الانقسام وتأجيج الصراعات.

تكريس الانقسام:

بعض المنابر الدينية تكرس الانقسام عبر خطب وفتاوى تُشيطن الآخرين وتزيد من حدة الاستقطاب. ففي عام 2025، ظهرت فتاوى وخطب مثيرة للجدل، خاصة تلك التي تدعو لـ”الجهاد” ضد الأقليات أو تصف مكونات معينة بـ”الطوائف المارقة”. هذا النوع من الخطاب الديني يوفر غطاءً شرعياً للعنف والإقصاء، ويصعب من جهود المصالحة.

محاولات الاحتواء وموقف رجال الدين المعتدلين:

على الجانب الآخر، يحاول بعض رجال الدين المعتدلين احتواء الخطاب الطائفي والدعوة إلى الوحدة والتسامح. يدعون إلى تصحيح الأخطاء دون قبول انتهاك دماء أي طائفة، ويرفضون إسقاط المشروع ما بعد الأسد، لكن مع تصحيح مساره. يقف هؤلاء رجال الدين المعتدلون عند محاولات دعوة التواصل اللاعنفي والحوار، لكن دورهم يظل محدوداً أمام التصعيد والضغوط السياسية والاجتماعية التي تواجههم.

العنصرية داخل الطائفية: الأقليات هدف مزدوج:

تتعرض مكونات المجتمع السوري، وخاصة الأقليات، لاستهداف مزدوج على أسس طائفية وإثنية ومناطقية. هذا الاستهداف يبرز الوجه الأكثر قتامة للانقسامات المجتمعية.

استهداف على أسس طائفية، إثنية، ومناطقية:

تتجاوز الانتهاكات مجرد الصراع السياسي لتصبح استهدافاً ممنهجاً بناءً على الهوية. العلويون، الدروز، الكرد، وغيرهم من الأقليات باتوا أهدافاً للتحريض والعنف، ليس فقط بسبب مواقفهم السياسية المزعومة، بل لمجرد انتمائهم الطائفي أو الإثني أو المناطقي.

شهادات وحالات موثقة للانتهاكات:

شهد عام 2025 العديد من الحالات الموثقة التي تبرز حجم هذه الانتهاكات:
جريمة ديزل ورد فعل عشيرة بني خالد واستباحة الأحياء العلوية بحمص: على الرغم من عدم وجود تفاصيل كافية عن “جريمة ديزل”، إلا أن رد فعل عشيرة بني خالد باستباحة أحياء علوية في حمص يشير إلى تفاقم الصراعات ذات البعد الطائفي، ليتبين لاحقاً أن الجريمة ارتكبها أقرباء الضحايا أنفسهم، إلا أن ردة الفعل كانت ضد العلويين.
⦁ مجازر طائفية في الساحل السوري: شهد الساحل السوري مجازر طائفية أدت إلى انتهاكات بحق العلويين، وتوثقت تقارير عن فرار سكان وانتقام طائفي. قدرت بعض التقارير عدد القتلى بالآلاف في هذه الأحداث، مما يبرز حجم العنف الطائفي الذي انفجر في المنطقة.
⦁ تسجيل مجهول يتحدث عن الرسول ونسب لشخص من الطائفة الدرزية: أدى تسجيل مجهول نسب لشخص درزي يتحدث عن الرسول (ص) إلى حملة واسعة على منطقتي جرمانا وصحنايا، مما أشعل كراهية وتوترات طائفية.
⦁ مجازر السويداء: في يوليو 2025، اندلعت اشتباكات في السويداء بين قوات محلية وقوات من العشائر ووزارتي الدفاع والدخلية، أسفرت عن مقتل المئات. هذه الأحداث أشعلت حملات كراهية ضد الدروز وأبرزت هشاشة الأمن في المنطقة.
⦁ فصل الآلاف من الموظفين لأسباب طائفية: وثقت تقارير حالات فصل آلاف الموظفين من وظائفهم لأسباب طائفية، خاصة من العلويين، مما يعكس تمييزاً ممنهجاً يهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية والاجتماعية في بعض المناطق.

إن هذه الأمثلة تعكس فراغاً حكومياً في مواجهة هذه الانتهاكات، مما يفاقم من الشرخ المجتمعي ويعمق الأزمة الإنسانية في البلاد، على الرغم من وعود التهدئة التي لا تزال بعيدة عن التطبيق الفعلي.

تحديات ومعالجات مقترحة:

في ظل هذا الواقع المعقد، تبرز تحديات كبيرة أمام السلطة الجديدة في سوريا لإدارة ملف التنوع الطائفي ومعالجة إشكالية الأقليات. تتطلب هذه المهمة تأسيس نظام يضمن العدالة والتمثيل والمواطنة دون تغذية الانقسام أو تكريس التمييز.

إدارة التنوع الطائفي وبناء دولة المواطنة:

يكمن التحدي الأكبر في كيفية بناء دولة مواطنة حقيقية تتجاوز الانتماءات الطائفية والإثنية. يتطلب ذلك تعزيز ثقافة التسامح والقبول بالآخر، وتجفيف منابع الخطاب الطائفي عبر آليات قانونية واجتماعية. كما أن إعادة تعريف السياسة كمساحة مشتركة لحل النزاعات، بدلاً من كونها أداة لتأجيج الصراعات، أمر ضروري.

القانون الغائب: تحديات المحاسبة والإفلات من العقاب:

يعتبر غياب الإطار القانوني الفعال أحد أكبر التحديات في مواجهة الخطاب الطائفي. لا توجد تشريعات واضحة وصارمة تجرّم خطاب الكراهية في سوريا، مما يسمح للمحرضين بالإفلات من العقاب.

غياب تشريعات واضحة تجرّم خطاب الكراهية:

إن الفراغ التشريعي في القانون السوري يحد من قدرة المجتمع على المحاسبة الحاسمة للمحرضين. على الرغم من أن السلطات السابقة جرمت الطائفية رسميًا، إلا أنها مارستها في الواقع، مما يعزز الإفلات من العقاب ويقلل من فعالية أي قوانين موجودة.

حالات إفلات من العقاب:

تسجل العديد من حالات الإفلات من العقاب، حيث تبقى المبادرات القضائية أو التحقيقات الرسمية متقطعة ومحدودة التأثير. هذا يرسخ فكرة أن التحريض الطائفي لا يواجه عواقب حقيقية، مما يشجع على استمراره وتفاقمه. عدم وجود تشريعات قوية تحظر التمييز العنصري والمطابقة للمعايير الدولية، مثل المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يساهم في هذا الإفلات.

رسم بياني يوضح التأثير النسبي لمختلف المصادر في تغذية الخطاب الطائفي والعنصري في سوريا، حيث تبرز منصات التواصل والحسابات الوهمية كأكثر المصادر تأثيراً.

كيف تُنقل الطائفية بين الأجيال:

تنتقل الطائفية عبر الأجيال من خلال “ذاكرة العار” وسرديات المظلومية، التي تبني الخوف وتعزز الولاءات الطائفية على حساب الهوية الوطنية. التنشئة الاجتماعية، والعادات، والتجارب الحربية، والإقصاء تخلق ذاكرة جماعية ترسخ الانتماءات وتعيد إنتاج خطاب الكراهية. في بيئة تفتقر إلى العدالة وتتسم بالانفلات الأمني، يرى الأفراد أن هويتهم الطائفية مرتبطة بالبقاء، مما يعمق هذه الانقسامات ويجعلها تتوارث.

مبادرات المواجهة: أصوات خافتة في الضجيج:

على الرغم من انتشار الخطاب الطائفي، توجد مبادرات من المجتمع المدني والصحفيين والناشطين تسعى لمواجهته وبناء السلام. هذه المبادرات تتنوع بين الدعوات الدينية لنبذ الطائفية، وحملات التوعية، والتحقيقات الصحفية.

مبادرات مجتمع مدني، صحفيين، ناشطين:

تعمل منظمات المجتمع المدني، مثل شبكة الصحفيات السوريات، على زيادة الوعي وتعزيز حقوق المرأة وبناء السلام. هناك أيضًا مبادرات تدعم الحوار السوري-السوري وتسعى لإنشاء شبكات حماية. على الصعيد الديني، يظهر رجال دين يدعون إلى نبذ الطائفية في بعض المناطق، لكن تأثيرهم يبقى محدودًا أمام منابر التحريض الأوسع.

حملات مضادة لخطاب الكراهية:

نجحت حملات إعلامية ومدنية مضادة في تسجيل بعض النجاحات على المستوى المحلي، من خلال التوعية والتحقيقات وبناء شبكات دعم. التحالف العالمي لمكافحة العنصرية، بالتعاون مع اليونسكو، يدعم سياسات مكافحة العنصرية من خلال التوعية والأطر القانونية، مما يمثل جهودًا دولية لمواجهة هذه الظاهرة.

لماذا تفشل غالبًا في الوصول الواسع؟

تفشل هذه المبادرات غالبًا في تحقيق انتشار واسع بسبب عدة عوامل: تشتت المجتمع المدني، وتضييق حرية التعبير، وسيطرة السرديات السياسية والأمنية. كما أن غياب التمويل الكافي والبنى المؤسساتية المستقلة، والانقسام الداخلي يجعل رسائلها أقل قدرة على اختراق القواعد الجماهيرية المتأثرة بخطاب التحريض. الانفلات الأمني والضجيج الإعلامي يعيقان أيضًا وصول هذه الأصوات إلى جمهور أوسع.

السوريون يتكلمون: أصوات من الداخل والخارج:

إن فهم مواقف السوريين تجاه الخطاب الطائفي أمر بالغ الأهمية لتقييم مدى تغلغله وتأثيره. على الرغم من نقص البيانات المسحية الشاملة، تشير التقارير والشهادات إلى وجود وعي متزايد بخطورة الخطاب، مع تساؤلات حول ما إذا كان السوريون قد سئموا من الطائفية أم استسلموا لها.

نتائج استطلاعات رأي:

تظهر استطلاعات رأي حديثة أن نسبة كبيرة من السوريين (85%) يقرون بانتشار خطاب الطائفية، ويعتقد 84% أن الناس يصنفون أنفسهم والآخرين على أساس مذهبي وديني. كما تشير دراسات أخرى إلى أن 65.3% من السوريين يفضلون دولة مواطنة قائمة على المساواة كحل لتجاوز الطائفية. هذه الأرقام تعكس رغبة واضحة في التغيير نحو مجتمع أكثر شمولاً.

شهادات من الداخل والخارج: هل تعب السوريون أم استسلموا؟

تتراوح الشهادات من الداخل والخارج بين التعب والرفض القاطع للطائفية من جهة، والاستسلام أو القبول الوظيفي لها لدى جماعات أخرى، نتيجة للخوف أو المصالح الشخصية. هذا يعكس الانقسام في مواقف السوريين، حيث يدرك البعض خطورة الخطاب ويسعون لمواجهته، بينما يجد آخرون أنفسهم مضطرين للتكيف مع الواقع الطائفي. ومع ذلك، هناك وعي متزايد بخطورة الخطاب ومطالبات قانونية ومجتمعية لمواجهته.

الغزو الثقافي لدمشق وتغيير التركيبة السكانية:

تثار مخاوف جدية بشأن “الغزو الثقافي” لدمشق ومناطق أخرى، وتغيير التركيبة السكانية والثقافية للمدينة نتيجة النزوح والانتقال السكاني القسري. هذا التغيير ليس مجرد تحول ديمغرافي، بل يحمل معه تغييرًا في النسيج الاجتماعي والثقافي، مما يعزز الخطاب الطائفي ويؤجج المخاوف من فقدان الهوية الأصلية للمدن.

مستقبل الخطاب الطائفي: تراجع أم ترسيخ؟:

يتساءل الكثيرون عما إذا كان الخطاب الطائفي في سوريا يتراجع أم يترسخ. تشير المؤشرات المتاحة إلى تصاعد واضح لهذا الخطاب في فترات 2024-2025 عبر وسائط متعددة، مع وجود جهود محلية ودينية مضادة.

أثر أي تسويات سياسية محتملة:

أي تسوية سياسية مستقبلية سيكون لها تأثير عميق على الخطاب الطائفي. فإما أن تقلل التوترات وتعيد تشكيل سرديات وطنية جامعة، أو أنها قد تعيد إنتاج خطاب أقوى إذا تم توزيع الموارد والسلطة على أسس طائفية. الحل يكمن في اعتماد المساواة والمواطنة كركائز أساسية لأي تسوية، لضمان عدم إعادة إنتاج العنف.

خطر إعادة إنتاج العنف مستقبلًا:

إن استمرار خطاب التحريض مع ضعف المحاسبة والعدالة الانتقالية وغياب سياسات الدمج يزيد من احتمال إعادة إنتاج العنف الطائفي مستقبلًا. هذا الخطر يتفاقم إذا صاحب ذلك سياسات لتوزيع السلطات والمناصب على أساس طائفي أو انتقامي، مما يحول دون تحقيق المصالحة الوطنية المستدامة. لذا، فإن معالجة جذور هذا الخطاب، من خلال الوعي بآليات التضليل والإصلاح القانوني وتعزيز العدالة الانتقالية، يعد أمرًا حاسمًا لتحصين المجتمع السوري من دوامة العنف.
يبدو أن الخطاب الطائفي في سوريا يشهد ترسيخًا في بعض السياقات وفشلًا في تقويضه كليًا، بينما يظهر تراجع جزئي في سياقات أخرى بفضل الوعي العام بخطورته. ومع ذلك، فإن غياب آليات قانونية ومؤسساتية قوية يجعل من الصعب القول بوجود تراجع مستدام، ومن المرجح استمراره ما لم يتم تحقيق تسويات سياسية واقعية وإصلاحات مؤسساتية شاملة.

التحول نحو المصالحة الوطنية:

إن مواجهة الخطاب الطائفي شرط أساسي لنهضة المجال السوري. تتطلب هذه العملية تجاوز تراكمات النزاع النفسية وبناء توافق وطني يركز على كرامة المجتمع وحماية المستقبل. لا يمكن تحقيق هذا إلا من خلال تجفيف منابع الخطاب الطائفي، وترسيخ دولة القانون والمواطنة المتساوية للجميع.

مقارنة بين أدوار الفاعلين في تغذية الخطاب الطائفي

يلخص هذا الجدول أدوار الفاعلين الرئيسيين في تغذية الخطاب الطائفي في سوريا، مع أمثلة للنتائج المترتبة على أفعالهم.

خاتمة
إن الوضع في سوريا عام 2025 يعكس تحولاً جذرياً في طبيعة الصراع، حيث أصبح الخطاب الطائفي والعنصري وقوداً لانفجار مجتمعي عميق. إن المعالجة الفعالة لهذه الظاهرة تتطلب نهجاً شاملاً يجمع بين الإرادة السياسية لتجريم التحريض، وتعزيز دور الإعلام المسؤول، ودعم المنابر الدينية المعتدلة، والأهم من ذلك، بناء دولة مواطنة حقيقية تضمن العدالة والتمثيل المتساوي لجميع مكونات المجتمع السوري. إن مستقبل سوريا يعتمد على قدرة الأطراف المختلفة على تجاوز الانقسامات التاريخية وبناء توافق وطني يقود إلى سلام مستدام.

إقرأ أيضاً: احتجاجات الساحل السوري: ماذا يريد العلويون من الحكومة الانتقالية؟

إقرأ أيضاً: مسيحيو سوريا وتصاعد المخاطر الأمنية: عامٌ أول يكشف هشاشة “العيش المشترك”

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.