في تطور لافت يشهده شرق الفرات، يتحوّل ملف دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من نقاش نظري ظلّ مطروحاً منذ عام 2018، إلى مسار سياسي–عسكري حقيقي تحركه ثلاث قوى: واشنطن، أنقرة، ودمشق.
ومع تغيّر مواقف الولايات المتحدة أخيراً، وتزايد الضغط التركي، وانقسام كردي، تبدو المنطقة مقبلة على إعادة ترتيب جذرية.
أولاً: لماذا تدفع واشنطن نحو الدمج الآن؟
لم تعد الولايات المتحدة تنظر إلى قوات قسد باعتبارها “شريكاً عسكرياً ضد داعش” فقط، بل أداة لإدارة توازنات شرق سوريا.
وتشير مصادر سياسية إلى ثلاثة دوافع أميركية رئيسية:
1- الحد من النفوذ الإيراني والروسي
ترى واشنطن أن إدماج قسد – ولو بشكل جزئي – في مؤسسات الدولة السورية سيمنع عودة النفوذ الإيراني شرقاً، ويمنع روسيا من السيطرة الكاملة على منابع الطاقة.
2- احتواء الانقسام الداخلي داخل قسد
تقرير أميركي حديث أشار إلى انقسام واضح داخل قيادة قسد:
– تيار براغماتي يؤيد التفاوض والدمج،
– وآخر متشدّد يميل لقيادة حزب العمال الكردستاني.
واشنطن تخشى أن يؤدي هذا الانقسام إلى انهيار البنية الأمنية في المنطقة.
3- تجنب أي مواجهة مع تركيا
واشنطن تدرك أن أي استمرار في شكل قسد الحالي سيعرّضها لضربات تركية جديدة، لذلك أصبحت ترى الدمج بوصفه طريقاً لاحتواء أنقرة وليس لمواجهتها.
ثانياً: الضغوط التركية… الورقة الأكثر تأثيراً في المعادلة
تركيا رفعت خلال الأشهر الأخيرة مستوى خطابها السياسي والعسكري تجاه الشمال، وأرسلت رسالة مباشرة لواشنطن:
أي قوة على حدودنا لا تُدمَج ضمن الدولة السورية أو تُنزع سلاحها الثقيل… ستواجه بتدخل عسكري.
وتشمل المطالب التركية:
إبعاد الوحدات الكردية الثقيلة 30 كم عن الحدود.
منع أي كيان سياسي كردي مستقل في الشرق.
ضمان أن أي “جيش سوري جديد” لا يكون امتداداً لحزب العمال الكردستاني.
ثالثاً: دمشق… تتعامل مع مسار الدمج كنافذة نفوذ لا كتسوية
على الرغم من الخطاب الرسمي عن “وحدة الأرض”، فإن دمشق تنظر إلى ملف قسد من زاوية مختلفة:
استعادة النفوذ دون تقديم تنازلات سياسية كبيرة.
دمشق تريد من الدمج:
إعادة السيطرة على مؤسسات النفط والغاز.
استعادة إدارة المعابر الحدودية.
إعادة انتشار أمني.
إضعاف أي محاولة لخلق حكم ذاتي مستدام.
وفي المقابل، لا تبدو مستعدة لمنح قسد صلاحيات واسعة أو اعترافاً سياسيّاً بهويتها القائمة.
لهذا تتعامل دمشق مع المسار كلعبة توازن دقيقة: قبول الدمج… دون قبول الاستقلالية.
رابعاً: رؤية واشنطن للدمج: بين “إعادة التشكيل” و”ضبط النفوذ”
تطرح الولايات المتحدة رؤية عملية جديدة خلال الأسابيع الماضية تقوم على:
دمج ثلاث فرق رئيسية من قسد في الجيش السوري مع بقاء بعض السلاسل القيادية الكردية وتحت الرقابة الأميركية.
ضمان دور أميركي في مرحلة الدمج لمنع أي عملية “تصفية” لقادة قسد أو عناصرها.
هذه الرؤية تمثل – للمرة الأولى – خطة دمج حقيقية تتجاوز الشعارات
خامساً: لماذا لا تريد واشنطن دولة كردية في سوريا؟
رغم علاقتها مع “قسد”، فإن واشنطن باتت تخشى من عدة سيناريوهات:
انفجار صراع عربي–كردي في شرق الفرات.
انجراف قسد نحو موسكو.
ظهور “عبء سياسي–أمني” لا ترغب الولايات المتحدة به.
مواجهة مباشرة بين “قسد” وتركيا.
لذلك، أصبح الهدف الأميركي واضحاً: قسد قوية بما يكفي للاستقرار… ضعيفة بما يكفي لعدم تشكيل دولة.
سادساً: هل تتجه المنطقة إلى “قسد جديدة”؟
التقديرات تشير إلى أن الشرق السوري يتجه نحو مرحلة جديدة عنوانها:
قسد مُعاد تشكيلها… لا مُستقلة.
قوة مندمجة… لا ذائبة.
قوة بغطاء أميركي… لكن ضمن بنية الدولة السورية.
ومن المتوقع أن يتم ذلك عبر خطوات تدريجية تشمل:
دمج وحدات.
إعادة انتشار.
ترتيبات حدودية.
تخفيض النفوذ السياسي للإدارة الذاتية.
وتحوّل الدور الأميركي من “حماية” إلى “إدارة دمج”.
خلاصة التقرير
بين ضغط أنقرة، ورغبة دمشق في استعادة السيطرة، ورؤية واشنطن لإعادة ترتيب شرق سوريا، يبدو أن:
ملف دمج قسد في الجيش السوري لم يعد احتمالاً… بل مساراً يجري تشكيله بالفعل.
الأسابيع المقبلة قد تحمل ملامح “النسخة الجديدة” من قسد:
قوة سورية ضمن الجيش، بضمانة أميركية، وتحت ضوابط تركية، وبقبولٍ مشروط من دمشق.
وبذلك تدخل سوريا مرحلة إعادة هندسة القوى الأمنية للمرة الأولى منذ 2011.
إقرأ أيضاً: قوات سوريا الديمقراطية: دمج قسد في الجيش السوري رهن بشروط واضحة
إقرأ أيضاً: الحكومة الانتقالية وقسد: تفاهمات أولية بشأن الاندماج العسكري وتحديات اللامركزية