سياسات جمركية متناقضة تكشف عمق الانقسام الاقتصادي

تعيش سوريا اليوم واقعًا اقتصاديًا منقسمًا على ذاته، يتجلى بوضوح في تباين السياسات الجمركية بين الحكومة في دمشق والإدارة الذاتية في شمال وشرق البلاد، ما انعكس مباشرة على الأسعار وكلفة المعيشة، وأدى إلى تشوهات عميقة في بنية السوق الوطنية.

ففي الوقت الذي يُفترض أن يشكل الجمرك أحد الأعمدة السيادية لتنظيم التجارة وحماية الاقتصاد الوطني، تحوّل في الحالة السورية إلى عنوان للانقسام، إذ تعمل على الجغرافيا ذاتها منظومتان اقتصاديتان بضرائب ورسوم وأسعار مختلفة، في ظل غياب سلطة مالية موحدة قادرة على ضبط السوق أو توحيد السياسات التجارية.

رسوم متناقضة.. وفجوة في الأسعار

تُظهر بيانات صادرة عن المنسق العام للجمارك في الحكومة السورية، مطلع أيلول/سبتمبر 2025، فوارق ضخمة في الرسوم المفروضة على السلع الأساسية المستوردة عبر معبر سيمالكا، وهو المنفذ الخارجي الوحيد الذي يربط مناطق الإدارة الذاتية بالعراق، بحسب ما نقلته وكالة نورث برس.

في قطاع الأدوية، على سبيل المثال، تفرض حكومة دمشق رسومًا جمركية مرتفعة تصل إلى 5013 دولارًا للطن الواحد من لقاحات الطب البشري، و500 دولار لأدوية الإنسولين، و3007 دولارات لأدوية الالتهابات (الكورتيكوستيرويدات)، و500 دولار للمضادات الحيوية والفيتامينات. أرقام تعكس سياسة مالية مشددة ترفع تكلفة الدواء وتثقل كاهل المستهلك السوري.

في المقابل، تعتمد الإدارة الذاتية سياسة مغايرة تمامًا، إذ أصدرت في 18 كانون الأول/ديسمبر 2024 التعميم رقم /32/، القاضي بإلغاء الرسوم الجمركية على البضائع الداخلة والخارجة من مناطقها إلى داخل سوريا، مبررة القرار بأنه “حرص على وحدة الأراضي السورية”. وأكدت أن نقاط العبور تُعتبر “نقاط مراقبة” لا أكثر.

إعفاءات تقلّص العائدات

بحسب هيئة المالية العامة في الإدارة الذاتية، تُعفى جميع أنواع الأدوية وحليب الأطفال من الرسوم الجمركية في معبر سيمالكا، بعد التنسيق مع هيئة الصحة. ومع ذلك، تشير الهيئة إلى أن وجود قوائم تتضمن رسومًا لبعض الأصناف هدفه ضبط عمليات التهريب وفرض الغرامات عند المخالفة.

وأدت هذه السياسة إلى تراجع عائدات الجمارك بنسبة 46.4% خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، حيث بلغت نحو 59 مليون دولار مقارنة بـأكثر من 110 ملايين دولار في الفترة نفسها من العام الماضي.

الغذاء ومواد البناء.. التفاوت الأوضح

الفروقات لا تقتصر على الأدوية، بل تمتد إلى معظم السلع الأساسية. فالحكومة السورية تفرض 300 دولارًا للطن الواحد من زيت دوار الشمس والشاي والسمن، بينما تفرض الإدارة الذاتية 20 دولارًا للزيت و3.16 دولارات للشاي و21.2 دولارًا للسمن.

أما في المواد الغذائية الأخرى، فتبلغ رسوم الأرز 27 دولارًا للطن في مناطق الحكومة مقابل 12.48 دولارًا في مناطق الإدارة، في حين تصل رسوم الخضروات (البندورة، البطاطا، الباذنجان) إلى 53 دولارًا للطن لدى الحكومة مقابل 10.72 دولارات فقط لدى الإدارة.

وتختلف الصورة في بعض الأصناف المستوردة، مثل الموز والتفاح، حيث تفرض الإدارة الذاتية 53 دولارًا و100 دولار للطن الواحد على التوالي، مقابل 25.92 دولارًا للموز و9.6 دولارات للتفاح في مناطق الحكومة. أما في قطاع مواد البناء، فتبلغ رسوم PVC نحو 33.4 دولارًا للطن، والحديد 7 دولارات، والإسمنت 4.02 دولارات في مناطق الإدارة الذاتية.

رسوم “ملغاة نظريًا”.. ومطبقة فعليًا

رغم النصوص القانونية التي تعلن إلغاء الرسوم الجمركية بين مناطق الإدارة الذاتية وباقي سوريا، إلا أن الواقع الميداني يظهر عكس ذلك. فبحسب شهادات تجار محليين، ما تزال هناك مبالغ تُدفع تحت مسميات مختلفة أثناء نقل البضائع.

يقول أحد التجار – طلب عدم ذكر اسمه – إن الإدارة الذاتية “تتقاضى مبالغ من السيارات التي تنقل البضائع تحت بند مخالفة الأنظمة”، مشيرًا إلى أن الرسوم غير الرسمية تتراوح بين 100 دولار لسيارة النقل الصغيرة من نوع H100، و200 دولار لشاحنات الإنتر، و400 دولار للقاطرات. ويؤكد أن هذه المبالغ تُدفع بشكل إلزامي، رغم كونها أقل من الرسوم الرسمية السابقة.

اقتصاد منقسم.. وسوق مشوهة

تكشف هذه المفارقات أن الاقتصاد السوري يعيش فعليًا في ظل نظامين ماليين متوازيين، ما يخلق فجوات سعرية كبيرة بين المناطق ويعزز التهريب والتلاعب بالسوق. كما يضعف الثقة بالعملة المحلية ويزيد من معاناة المستهلك الذي يجد نفسه محاصرًا بتكاليف متناقضة وأسواق مضطربة.

وفي غياب رؤية وطنية موحدة أو تنسيق اقتصادي حقيقي بين الطرفين، يبدو أن الانقسام الجمركي في سوريا يعمّق الشرخ الاقتصادي والاجتماعي، ويجعل من البلاد نموذجًا نادرًا لوجود “اقتصادين داخل دولة واحدة”، يتنافسان بدل أن يتكاملا.

اقرأ أيضاً:سوريا تنضم رسمياً إلى منصة بُنى للمدفوعات الإقليمية وتناقش دخول فيزا إلى السوق

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.