نساء شمال شرق سوريا: صامدات يحافظن على “خبز التراث” في وجه النكبات

في قلب شمال شرق سوريا، حيث تتشابك خيوط الحياة بالنزوح والتحديات الاقتصادية، تبرز قصص نساء صامدات يحوّلن العجين إلى شريان حياة ومصدر فخر ثقافي، إنهن نساء يصنعن “خبز الصاج والتنور” التقليدي، ليس فقط لإطعام عائلاتهن، بل للحفاظ على إرث عريق في مواجهة قسوة الظروف.

 

حكايات من نار التنور: من أم مريم إلى فاطمة

كل صباح، قبل شروق الشمس، توقد أم مريم، النازحة من سري كانيه، تنورها الطيني في فناء منزلها بالقامشلي، بيدين ماهرتين، تلصق العجين على الجدران الساخنة، لتتحول إلى أرغفة دافئة تفوح رائحتها في الأجواء،

“كنت أخبز لأولادي فقط، أما اليوم فخبزي للجيران، وأحياناً أبيع في السوق”، تقول أم مريم لموقع “الترا سوريا” بصوت يملؤه الهدوء، مؤكدة أن “هذا العمل هو مصدر دخلي الوحيد”.

بعيداً عن البيوت، وفي أفران الأحياء الشعبية، تعمل نساء أخريات بجهد مضاعف. فاطمة إبراهيم، النازحة من تل أبيض، تجد في عملها بفرن شعبي بحي الوحدة مصدر رزق مستقر.

وتشرح فاطمة، التي تخبز أنواعاً مختلفة من خبز الصاج والتنور للمطاعم والأسواق المحلية “العمل في الفرن مختلف؛ الجهد أكبر، لكن الراتب يساعدني على إعالة أطفالي”.

سواء في البيوت أو الأفران، تشكل هذه المهنة جزءاً حيوياً من دورة إنتاج الخبز اليومية في المدينة، رغم طابعها غير الرسمي.

 

جودة الأجداد في مواجهة خبز السوق

يعاني سكان شمال شرق سوريا من تدني جودة الخبز المتوفر في المخابز الرسمية الكبيرة، حيث يعتمد الإنتاج غالباً على مواد وأساليب صناعية تؤثر سلباً على الطعم والقيمة الغذائية، ويشكو المواطنون من خبز جاف وغير طازج، خاصة مع ارتفاع أسعاره.

في المقابل، يتميز خبز الصاج والتنور الشعبي، الذي تصنعه النساء، بجودته وطعمه الطبيعي الذي يفضله السكان.

تؤكد أم مريم: “الخبز الذي أخبزه ليس فقط طعمه أفضل، لكنه طازج ويشبع أكثر”.

وتضيف فاطمة: “الزبائن يفضلون خبزنا لأنه طبيعي ولا يحتوي على إضافات، وهذا يجعلهم يعودون دائماً”.

هذا التفضيل يسلط الضوء على الدور المحوري الذي تلعبه هؤلاء النساء في توفير بديل صحي ومغذٍ يرتبط بالتراث المحلي.

 

الخبز: مهنة وإرث ثقافي

صناعة خبز الصاج والتنور ليست مجرد عمل يومي؛ إنها مهارة متوارثة من الأمهات والجدات، تحافظ عليها النساء رغم التحديات.

في الأحياء والقرى، لا تزال النساء يجتمعن حول التنور لإعداد الخبز، لتتحول هذه اللحظات إلى فضاء لتبادل الأحاديث والذكريات

وتقول أمينة رشيد من ريف القامشلي “التنور جزء من حياتي، لا أستطيع التخلي عنه، أشعر أنني أحافظ على جزء من هويتي”.

بالنسبة للكثير من النساء اللواتي فقدن عملهن أو منازلهن خلال سنوات النزوح، أصبح الخبز وسيلة للحفاظ على الاستمرارية وتأمين مصدر دخل ضروري.

 

تحديات تحت نيران التنور: الاقتصاد والأعباء الاجتماعية

رغم أهمية هذه المهنة، تواجه النساء العاملات فيها صعوبات يومية، تتجاوز ارتفاع أسعار الطحين ونقص المواد الأولية، فصعوبة تأمين الحطب أو الغاز اللازم لتشغيل الأفران ترفع من تكاليف الإنتاج بشكل كبير.

بالإضافة إلى ذلك، تتحمل العديد من النساء أعباءً اجتماعية ثقيلة، حيث يضطررن لترك أطفالهن لساعات طويلة في المخيمات أو المنازل دون رعاية كافية أثناء عملهن.

تقول سارة العلي، النازحة المقيمة في حي الهلالية بالقامشلي، “أعمل في الفرن منذ سنوات، والظروف صعبة، خاصة مع ارتفاع الأسعار ونقص المواد؛ أحياناً أترك أطفالي لفترات طويلة دون رعاية، لكن لا خيار أمامي سوى الاستمرار، لأن هذه المهنة هي مصدر دخلي الوحيد”،

وتشير التقارير الميدانية إلى أن نسبة كبيرة من النساء النازحات في شمال شرق سوريا يعتمدن على صناعة خبز الصاج والتنور كمصدر دخل أساسي، في ظل غياب فرص العمل الأخرى. ومع ارتفاع أسعار المواد الأولية، لا سيما الطحين الذي سجل زيادة تتراوح بين 25% و50% خلال العامين الماضيين، تواجه النساء تحديات متزايدة في تغطية تكاليف الإنتاج. ورغم ذلك، تظل هذه المهنة إحدى الفرص المحدودة المتاحة لهن، وإن كانت غالباً توفر دخلًا متواضعاً لا يغطي نفقات المعيشة المرتفعة.

 

صمود وإرث: مستقبل “خبز التراث”

في المحصلة، تعكس صناعة خبز الصاج والتنور في شمال شرق سوريا أحد أشكال التكيف الاقتصادي الملحوظ للنساء في ظل ظروف معيشية صعبة، فإلى جانب مساهمتها في تأمين مصدر دخل، تمثل هذه المهنة وسيلة للحفاظ على تقاليد محلية في إنتاج الخبز وتوفير بدائل غذائية يفضلها السكان، وبين الجهد اليومي والتحديات المستمرة، تستمر هؤلاء النساء في أداء دور أساسي في دعم أسرهن والمجتمع المحلي، صامدات يحفظن “خبز التراث” من النسيان.

 

اقرأ أيضاً: نساء سوريات في مصر.. من أوجاع اللجوء إلى ريادة العمل والإبداع

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.