بطريقة مفجعة وبرحيل قاس ومفاجئ، ودعنا الحارس الأمين لتدمر وابن نخيلها وصخورها المنحوتة منذ الأزل خالد الأسعد عالم الأثار السوري الذي اغتالته يد الإرهاب الآثمة يوم 18 من آب عام 2015 تحت شمس محبوبته وشامة البادية السورية، استطاع أن يشكل رمزاً من رموز الثقافة السورية على اختلاف أشكالها، وذكراه باقية في عقول وقلوب السوريين أينما كانوا وداخل قاعاتٍ ومتاحفٍ عالمية مع نصب تذكارية وأفلام من إنجازاته التي لا تنته.
ولد خالد الأسعد بتاريخ 11 من كانون الأول 1933، بالقرب من معبد بل، وقضى حياته في خدمة “تدمر” وآثارها التاريخية، ويقول ابنه طارق الأسعد لـ “داما بوست”.. “لنا كل العز والفخر بالنسب لخالد الأسعد، فهو من قدّم نفسه قرباناً للحفاظ على مملكة تدمر وآثارها، ونحن كعائلة نسعى جاهدين في المحافظة على أي أثر على أرض سورية وليس تدمر فقط، وهو من ربانا على الثقافة والحضارة السورية وخاصةً بعد كلماته التي كتبت على جدارية في مدينة طرطوس “الإنسان بلا تاريخ، إنسان بلا مستقبل”.
وأضاف الأسعد بقوله من أهم كلماته العالقة في ذهني.. “حبي لتدمر وعشقي لها لا يوازيه أي شيء في الدنيا، لقد زرت معظم مدن العالم شرقاً وغرباً، ولو خيّرت بينها لاخترت تدمر، فعلى ترابها عشت ومن مائها شربت، وكل ما قدمت من أجلها من جهد وتعب أقل من الواجب”.
وقال الأسعد فيما يخص حادثة الموت.. “حتى الآن لم تتمكن الجهات المختصة من العثور على جثمان خالد الأسعد بعد قتله على يد إرهابيي تنظيم داعش، رغم ظهور العديد من الشائعات حول العثور على جثمانه إلا أن هذا الكلام غير صحيح، ومن عامين تحديداً حاول مجموعة من الأشخاص اللعب بمشاعرنا في أنهم وجدو جثمان العالم خالد الأسعد في تدمر وقاموا بالاتصال والعمل مع جهة مختصة وبعد أيام من إتمامهم العمل ونقل الجثمان إلى مشفى حمص العسكري، تبين في الفحوصات الطبية أنه ليس جثمان والدي”.
كان لخالد الأسعد عدّة إسهامات حضارية وثقافية، وأنجز الكثير من الأبحاث والدراسات نُشر معظمها بخمس لغات حيّة وربما أكثر ومن أبرزها مرحباً بكم في تدمر “الدليل السياحي الأول عن تدمر” مع عبيد طه، نُشر بخمس لغات عام 1966، وقصر الحير الشرقي “مدينة في الصحراء” بالإنكليزية بالتعاون مع البعثة الأميركية في تدمر وجامعة ميتشيغان عام 1978، و”تدمر أثرياً وتاريخياً وسياحياً” ونشرت عام 1984، وفي عام 1988، عثر على منحوتة حسناء تدمر، والتي صُنفت وفق المعايير الأثرية العالمية بأنها من أروع المنحوتات و أكثرها جمالاً على الإطلاق.
وعثر على مدفن أسرة بولحا بن نبو شوري، ومدفن أسرة زبد عته، ومدفن بورفا وبولحا، ومدفن طيبول، كما أشرف على ترميم بيت الضيافة عام 1991، وشارك بإعادة بناء أكثر من 400 عمود كاملاً من أروقة الشارع الطويل ومعبد بعلشمين ومعبد اللات وأعمدة ومنصة وأدراج المسرح، وكذلك الأعمدة التذكارية الخمسة المعروفة، إضافة لإعادة بناء المصلبة وأعمدتها الستة عشرة الغرانيتية لمدخل حمامات زنوبيا، ومحراب بعلشمين، وجدران وواجهات السور الشمالي للمدينة، وترميم أجزاء كبيرة من أسوار وقاعات وأبراج، وممرات القلعة العربية (قلعة فخر الدين) وتركيب جسر معدني فوق خندقها، ثم ترميم الأسوار الخارجية والأبراج في قصر الحير الشرقي، وإعادة بناء 20 عمود مع تيجانها في جامع هشام، إضافة لبناء بيت الضيافة في الموقع عام 1966، وقام بربط الموقع بطريق اسفلتي معبدة عام 2000.
شارك الراحل “الأسعد” بالكثير من البعثات التنقيبية والترميمية وبعدّة صفات سواء كرئيس أو مشارك، هذه البعثات التي أخذ بعضها طابعاً دولياً مشتركاً مثل البعثة السويسرية والبولونية والفرنسية والكثير من البعثات التي كان لها أصداءً عالمية، وأتقن عدّة لغات عالمية ومنها لغات قديمة أبرزها اللغة الآرامية والتي هي لغة بعض شعوب شرق المتوسط منذ آلاف السنين، هذا ما كرّس الأسعد كعالِم دولي وباحث مرجع لدراسات على المستويات الدولية.
حصد الراحل العديد من الجوائز خلال مسيرته المهنية ومنها وسام الاستحقاق برتبة فارس من رئاسة الجمهورية الفرنسية ورئاسة جمهورية بولونيا والتونسية وأخرى من الدرجة الممتازة من رئاسة الجمهورية العربية السورية، وحتى الرمق الأخير بقيَّ الأسعد حاضراً بين السوريين بأعماله وإنجازاته وأبحاثه العالمية، فلم يكن مجرد عالم آثار فقط فهو صاحب الفضل بتطوير المؤسسة الأثرية بتدمر على جميع الاصعدة وهو صاحب مقولة “نخيل تدمر لا ينحني”.