السويداء بين فخ الدولة وفوضى السلاح: الجزء الأول

أحمد موسى -داما بوست

في يوم الأحد 13 تموز/يوليو 2025، بدا أن السويداء على موعد مع محطة جديدة في مشهدها الأمني والسياسي المأزوم، حين أوقفت عناصر الأمن العام على حاجز المسمية بين دمشق والسويداء سائق سيارة خضار من آل دوارة، ينحدر من مدينة العريقة في السويداء. تم توقيفه مؤقتًا ثم الإفراج عنه بعد ساعات، فيما بقيت سيارته محتجزة، رغم المساعي للإفراج عنها.
لكن الحدث الذي بدأ فرديًا أخذ طابعًا جماعيًا حين ردّت مجموعات مقربة من السائق بخطف ثمانية مواطنين مع سياراتهم، مطالبين بالإفراج عن السيارة مقابل الإفراج عن المختطفين. لكن الخطف لم يكن إلا العارض الظاهر لمشكلة أعمق، تتعلق ببنية الحاجز نفسه والعناصر المنتشرة عليه، والذين ينتمون إلى بدو السويداء، وهم في حالة توتر تاريخي مع الدروز. فالمطالبات السابقة من الفعاليات الاجتماعية والروحية بتغيير هؤلاء العناصر، وتجاهلها من قبل الدولة، رسخت شعورًا بالغبن المتراكم. وهكذا انفجرت الأزمة.
الجذور الطائفية – الأمنية للتصعيد
لم تكن المشكلة بين أفراد أو عصابات، بل بين مجتمعين يقطنان ذات الجغرافيا: الدروز والبدو، وبخلفية من الصدامات المتكررة، والحساسيات الأمنية والاتهامات المتبادلة. فالتوتر على حاجز المسمية كان يخزن قابلية الانفجار، خصوصًا مع شعور مجتمع السويداء بأن عناصر الحاجز يمارسون سلوكًا سلطويًا يتجاوز حدود القانون.
ورغم وعود محافظ السويداء مصطفى بكور المتكررة بمعالجة الوضع، فإن عدم الاستجابة الرسمية لتلك المطالبات فاقم الاحتقان. وتحوّل الخطف إلى اشتباكات مباشرة بين الدروز والعشائر، خاصة في حي المقوس، لتتخذ الأحداث مسارًا عسكريًا واسعًا بدخول قوات الجيش والأمن إلى المدينة.
من ضبط التوتر إلى اقتحام المدينة: أين اختفى الاتفاق؟
فيما كانت الأطراف تبحث عن وساطات لاحتواء الاشتباك، بدا أن الحكومة السورية قررت التعامل مع الوضع كحالة أمنية متمردة. ورغم إطلاق سراح المختطفين من الطرفين عبر وساطة شيخ العقل يوسف جربوع، إلا أن وزارة الداخلية أعلنت ما وصفته بـ”التصعيد الخطير في ظل غياب المؤسسات الرسمية المعنية”، محذّرة من تفاقم العنف ومطالبة بضبط الجهات المسلحة ومحاسبة المتورطين.
لكن التحليل السياسي والعسكري يكشف أن العملية تجاوزت حدود فض الاشتباك. فالتدخل العسكري رافقه استخدام كثيف للسلاح الثقيل من قبل الجيش، من دبابات وقذائف وصواريخ، في سابقة تشير إلى أن الهدف لم يكن فقط فض الاشتباك الواقع في حي المقوس، بل “إعادة السيطرة” بالقوة على كامل المحافظة، وفرض نموذج أمني شامل. علماً أن اتفاقًا مسبقًا بين الحكومة ووجهاء السويداء كان قد نصّ على أن تكون قوات الأمن الداخلي المنتشرة في السويداء من أبناء المحافظة، وليس من خارجها.
بيان الهجري: شرعية تحت ضغط
في هذه اللحظة، أصدرت الرئاسة الروحية للدروز، ممثلة بالشيخ حكمت الهجري، بيانًا دعا فيه كافة الفصائل المسلحة في محافظة السويداء للتعاون مع قوات وزارة الداخلية وعدم مقاومة دخولها، وتسليم سلاحها لوزارة الداخلية والبدء بحوار مع الحكومة. وقد بدا هذا البيان محاولة لاحتواء الكارثة الإنسانية القادمة، وإعادة ضبط العلاقة مع الدولة، لكنه صدر تحت ضغط عسكري ميداني مكثف، وأمام مشهد من الخسائر البشرية التي بدأت تتعاظم. في ظل غياب أي دور للاحتلال الإسرائيلي، الذي لطالما صدَّر نفسه حاميًا للدروز في سوريا، مما أعطى شعورًا لدى الجميع بأن السلطة السورية قد حصلت على موافقة وضوء أخضر لدخول السويداء.”
الانتهاكات: سقوط الاتفاق الأول
ما هي إلا ساعات حتى بدأت صور التجاوزات بالانتشار: حلق شوارب الشيخ مرهج شاهين، ركل عمائم المشايخ بالأقدام، الاعتداء على المدنيين، ومجزرة آل رضوان التي أودت بحياة 12 شخصًا، في حين وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 169 مدنيًا وإصابة أكثر من 200 آخرين منذ بداية الاشتباكات إلى تلك اللحظة.
هذه المشاهد مثلت تحطيمًا فعليًا للاتفاق، بل وانتكاسة رمزية للطائفة ككل، مما دفع الشيخ الهجري إلى إصدار بيان معاكس وصف فيه الاتفاق السابق بـ”المذل”، ورفض أي تهدئة، معلنًا استمرار القتال حتى إخراج الجيش والأمن من السويداء.
النداء إلى الخارج: لحظة الانكسار أم بداية التحول؟
في لحظة اعتبرت فاصلة، أطلق الشيخ الهجري نداءً نادرًا من نوعه للعالم الخارجي، وخصّ به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والملك الأردني عبد الله الثاني. قال في بيانه:
“أهلنا يُبادون، ويُقتلون بدمٍ بارد، لا يُفرّق القاتل بين صغير أو كبير، بين امرأة أو طفل. هذه مجازر تُرتكب على مرأى من العالم”.
نداء الهجري كان نقطة تحوّل استراتيجية، إذ اعتبر خرقًا غير مسبوق لـ”عقيدة الانغلاق” التي تمسكت بها الطائفة تاريخيًا، وكان دعوته لـ “إسرائيل” علناً تحديدًا صادما للبعض، لكنها في نظر آخرين كانت تعبيرًا عن الإحساس بالخذلان والعجز عن إيجاد حل داخلي.
“إسرائيل” تتدخل: رسائل رمزية أم أجندة مدروسة؟
استجابة “إسرائيل” بدأت تدريجية، أولًا من خلال قصف رمزي لم يستهدف أي عنصر أو عتاد مباشر، كما وصفه العقيد حسن عبدالغني، المتحدث باسم وزارة الدفاع السورية عبر لقاء مع الإخبارية السورية. ثم تصاعد الموقف سياسيًا، مع تصريحات من وزير الأمن القومي لدى الاحتلال الإسرائيلي “إيتمار بن غفير” الذي دعا إلى اغتيال الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، واعتبره “جهاديًا لا يمكن التفاوض معه” وكان وزير الشتات لدى الاحتلال “عميحاي شيكلي” دعا أيضا، إلى اغتيال الشرع، واصفاً أنه إرهابي وقاتل وحشي.
هذا التصعيد في الخطاب الإسرائيلي انعكس عسكرياً عبر استهداف “إسرائيل” بشكل مباشر لقيادة الأركان السورية والقصر الجمهوري في دمشق، مطالبة بإخراج الجيش من السويداء.
هذا التسلسل يطرح أسئلة عن النوايا الإسرائيلية: هل كانت “إسرائيل” تنتظر اقتتالًا داخليًا لتتدخل كحامٍ للطائفة الدرزية؟
تحليل الخيارات يشير إلى سيناريويهن محتملين:
“إسرائيل” تركت الأمور تتصاعد عمدًا لتثبت نفسها كطرف أساسي في الجنوب السوري، ولتقدم نفسها كراعية للدروز.
أو أنها وافقت مسبقًا على دخول الجيش السوري إلى السويداء، لكنها غيّرت موقفها نتيجة الانتهاكات الفظيعة.
الاتفاق الثاني: الشيخ جربوع يعقد تسوية جزئية
تحت ضغط الضربات الإسرائيلية، وبحثًا عن مخرج، أعلن شيخ العقل يوسف جربوع اتفاقًا جديدًا لوقف إطلاق النار، يتضمن حماية المدنيين، وتنظيم السلاح بالتعاون مع الداخلية والدفاع، ودمج السويداء تدريجيًا ضمن مؤسسات الدولة. لكن الشيخ الهجري رفضه، معلنًا مواصلة القتال حتى “تحرير” المحافظة، ما كشف انقسامًا حادًا داخل القيادة الروحية والاجتماعية في السويداء.
الانسحاب الرسمي: هزيمة سياسية أم مناورة محسوبة؟
مع استمرار الضغط الميداني والسياسي، أصدرت الرئاسة السورية بيانًا أعلنت فيه سحب القوات من السويداء “استجابة لوساطة أميركية عربية”، في خطوة وُصفت بأنها تأتي لـ”تجنيب البلاد مزيدًا من التصعيد”.
لكن صيغة البيان الرئاسي بدت إعلانًا عن انسحاب كامل وليس مجرد إعادة انتشار، الأمر الذي أثار استياء الأوساط السياسية الموالية، واعتُبر انتصارًا لفصائل الهجري، لا سيما بعد بدء الجيش فعليًا بالانسحاب الكامل.
خطاب الشرع: حفظ ماء الوجه أم تسليم بالهزيمة؟
في فجر يوم الخميس 17/7/2025، ألقى الرئيس الانتقالي أحمد الشرع خطابه الأول بعد أحداث السويداء قال فيه:
“قررنا تكليف بعض الفصائل المحلية ومشايخ العقل بمسؤولية حفظ الأمن في السويداء… لتجنب انزلاق البلاد إلى حرب واسعة جديدة”.
الخطاب حمل نبرة تراجعية واضحة، واعترف ضمنيًا بفشل تحقيق الأهداف للعملية العسكرية، لكنه حمل تصعيدًا ملحوظًا ضد “إسرائيل”، حين وصفها ثلاث مرات بـ”الكيان”، على عكس تصريحاته السابقة التي تدعو إلى السلام.
هذا التحول اعتُبر لدى كثيرين محاولة لامتصاص غضب القاعدة الشعبية الموالية، وتبرير الانسحاب بـ”الواقعية السياسية”، لكنه كشف هشاشة الخط السياسي تجاه الجنوب السوري.
أسئلة مفتوحة: من المستفيد؟
في نهاية الجولة الأولى من الأحداث، برزت مجموعة من الأسئلة:
لماذا لم تُمارس “إسرائيل” ضغطًا مبكرًا لتفادي دخول الجيش؟
هل كان من مصلحة “إسرائيل” أن تقع المواجهات أولًا، لتقدم نفسها كمنقذ؟
هل نحن أمام صراع نفوذ “إسرائيلي” – تركي في الجنوب السوري؟
التحليل يُظهر أن “إسرائيل” خرجت رابحة على أكثر من صعيد: تثبيت حضورها السياسي والعسكري المباشر في سورية، تقديم نفسها كحامٍ للأقليات، وزعزعة صورة السلطة السورية.
إلى أين تتجه السويداء؟
“قد يكون انسحاب الجيش من السويداء قد طوى صفحة الاشتباك مع السلطة المركزية، لكنه لم يُنهِ الحرب، بل أعاد ترتيب فصولها. فما إن خفت صوت المدافع الرسمية، حتى بدأت طبول مواجهة جديدة تُقرع بين العشائر والفصائل الدرزية، في مشهد يشي بأن ما مضى لم يكن إلا البداية. في الجزء الثاني من سلسلة «السويداء بين فخ الدولة وفوضى السلاح»، نفتح فصول الدور الإسرائيلي في هذه المواجهة وبداية الاشتباك المباشر مع العشائر.”

 

إقرأ أيضاً: هل يمهّد اتفاق وقف إطلاق النار في السويداء لبداية حكم ذاتي؟

إقرأ أيضاً: السويداء تحت الحصار: مأساة إنسانية متصاعدة ومطالب عاجلة بالممرات الآمنة والقوات الدولية

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.