ضحايا العقود “البرانية” في مواجهة التزوير والفوضى العقارية
في قلب العاصمة السورية، تحولت أحلام المواطنين بالحصول على سكن خاص إلى كوابيس قانونية معقدة. ففي دمشق، لا يكفي أن تدفع ثمن منزلك لتصبح مالكه الشرعي. آلاف المواطنين وقعوا ضحايا لما يُعرف بـ”العقود البرانية”، وهي اتفاقيات تُبرم خارج السجلات الرسمية، وسط تعقيدات مزمنة في عمليات نقل الملكية، وغياب الرقابة الفعالة، وتفشي واسع لظاهرة التزوير وشبكات السماسرة.
قصص البيع المكرر للعقار الواحد، وسندات الملكية المفقودة أو المزورة، أصبحت جزءًا من الواقع اليومي الذي يدفع بالمواطنين إلى طرق أبواب القضاء سعيًا لاستعادة حقوقهم. هذا المشهد يتزامن مع مساعٍ حكومية لإصلاح منظومة عقارية اهترأت وتفاقمت مشكلاتها بشكل كبير خلال سنوات الحرب.
“العقود البرانية”: ملكيات وهمية تضيّع الحقوق
تُشكل هذه العقود غير الرسمية جوهر الأزمة. في بداية عام 2025، ظن عبد الله المحمود، شاب في الأربعينيات، أنه اقترب من تحقيق حلمه بامتلاك شقة. عرض عليه أحد السماسرة شقة بسعر مغرٍ، مؤكدًا أن تأخر نقل الملكية مجرد إجراء روتيني. دفع عبد الله المبلغ بالكامل، وتسلّم المفاتيح، واكتفى بتوقيع عقد “براني”. لكن بعد شهرين فقط، صُدم بتبليغ قضائي من شخص يحمل سند ملكية قانونيًا، يطالبه بإخلاء العقار فورًا. تبين أن البائع استغل توقف عمليات التوثيق الرسمية وباع الشقة مرتين.
يقول عبد الله لـ”تلفزيون سوريا”: “أنا المشتري حسن النية، لكن كل شيء ضدي: العقد، المحاكم، والشقة التي حلمت فيها أصبحت عبئًا قانونيًا”. ودخل في دوامة المحاكم التي لم تعترف بعقده “البراني” أو بحسن نيته.
هذه ليست حالة فردية. فـمجد زريقة يروي قصة مشابهة حدثت له مطلع العام الجاري. بعد سنوات من الادخار، وجد مجد شقة تناسبه في حي ركن الدين الشهير بدمشق. بدا البائع موثوقًا، والعقار بلا إشارات حجز، لكن الإجراءات العقارية كانت عالقة. اقترح الوسيط إتمام الصفقة بعقد “براني”. دفع مجد كامل المبلغ، وتمت كتابة العقد بخط اليد ووقع الشهود، ثم تسلّم المفتاح وانتقل للسكن. بعد شهر، فوجئ بشخص يطرق الباب، يحمل سند ملكية باسمه، ويطلب منه إخلاء المنزل فورًا. اتضح أن البائع قد باع الشقة مرتين. لجأ الشاب الثلاثيني إلى القضاء، لكن عقده “البراني” لا يثبت الملكية، بينما يحمل خصمه سندًا رسميًا. يقول مجد بمرارة: “دفعت ثمن الشقة، ولكن وضعي اليوم أُعامل كمستأجر لا مالك بلا عقد ولا مفاتيح”، وهو يواجه الآن دعوى إخلاء ويبحث عن محامٍ للدفاع عن حسن نواياه.
في حي مساكن برزة، واجه المهندس راشد عبد النعيم مصيرًا مشابهًا بعد شرائه شقة عبر عقد “براني”. بعد بضعة أشهر، تبلّغ بوجوب إخلاء العقار، إذ قُدمت وكالة مزورة تُظهر بيع الشقة لطرف ثالث. لم يكن يملك سوى وثيقة يدوية، تاركًا عائلته تتساءل يوميًا: “إلى أين نذهب؟”.
إرث ضائع وفوضى السجلات العقارية
الأزمة لا تقتصر على عمليات البيع المكرر. ريما الأسعد تروي كيف ورثت هي وشقيقاتها منزل والدهن في حي المهاجرين، لكن الملكية لم تسجل رسميًا لكونه مقيدًا بسجل الإسكان العسكري المؤقت. استغل أحد إخوتها هذه الثغرة وباع المنزل دون تفويض، مستخدمًا عقدًا داخليًا يدعي تمثيل الورثة. بيع المنزل لاحقًا لطرف ثالث باستخدام وكالة غير مصدقة. عندما حاول الورثة الاعتراض، اصطدموا بإجراءات لا تعترف بأي منهم كملاك قانونيين. قالت ريما لـ”تلفزيون سوريا”: “أوراقنا ضاعت بين السجلات، والمنزل صار بيد شخص لا نعرفه، ونحن لا نملك سوى اسم الوالد لنقوله في المحكمة”.
يؤكد عبد الباسط قيراطة، المدير العام للمصالح العقارية، أن “الملكية العقارية لا تُكتسب إلا بتسجيلها رسميًا في الصحيفة العقارية”، مشددًا على أن أي تصرف دون ذلك يُعد باطلًا قانونيًا ولا ينتج عنه حقوق. ويضيف أن دمشق تعاني من إشكالية كبيرة تتعلق بتعدد المرجعيات العقارية، حيث تعتمد العديد من المناطق على سجلات مؤقتة صادرة عن جهات كالإسكان العسكري أو المحافظة، مما يُعقّد توحيد الملكية القانونية ويزيد من هامش التلاعب.
إصلاحات حكومية: محاولة لفك تعقيدات التملك
تعمل الحكومة السورية الجديدة على إصلاح عميق لمنظومة التوثيق ونقل الملكية، بالتعاون مع وزارتي المالية والداخلية. أكد قيراطة أنه تم الاتفاق على تشكيل لجان مشتركة لإعادة تقييم منظومة الضرائب العقارية، مشيرًا إلى إلغاء العديد من الرسوم السابقة وتفويض المصالح العقارية باستيفاء الضرائب الجديدة بعد تنظيمها.
في خطوة هامة، كشف قيراطة أن وزارة الداخلية ستقوم بتزويد المديرية العامة بقاعدة بيانات خاصة بأسماء الأشخاص الممنوعين من التصرف بممتلكاتهم. والأهم من ذلك، أعلن عن إلغاء الموافقة الأمنية وبراءة الذمة بشكل نهائي، وهما من أبرز المعوّقات التي عرقلت عمليات البيع والشراء لسنوات. هذا الإجراء سيُتيح للمواطنين إجراء عملية النقل العقاري من خلال جهة واحدة فقط هي المصالح العقارية، وبطريقة مبسطة تعتمد على توصيف العقار، دون الحاجة للتنقل بين الدوائر.
أعرب قيراطة عن قلقه من تفشي عمليات النصب والتزوير، لا سيما تلك التي طالت ممتلكات تعود لأشخاص يعيشون في الشمال السوري أو خارج البلاد. وكشف عن رصد حالات بيع لوحدات سكنية صودرت عبر قرارات من “محكمة الإرهاب” التابعة للنظام السابق، ثم بيعت بالمزاد العلني وسُجلت باسم الجمهورية العربية السورية، وقد بلغ عددها نحو 50 عقارًا.
تسهيلات قضائية وأرقام مفزعة
أشار المدير العام للمصالح العقارية إلى أن الوزارة تتعاون حاليًا مع القضاء لدعم المتضررين ممن نُزعت ملكياتهم بطرق قضائية أو مشبوهة. وتوفر المديرية العامة لهؤلاء المتضررين وثائق رسمية، من بينها بيانات الملكية والسندات العقارية، تتيح لهم رفع دعاوى قضائية للطعن بالتسجيلات غير القانونية. كما أوضح أن أي عقار تم بيعه لطرف ثالث نتيجة لتزوير سابق، يتطلب من المتضرر تقديم شكوى قانونية جديدة ضد المالك الحالي لإثبات حقه واسترداد ملكيته.
كشف قيراطة أن المديرية تعمل حاليًا على حصر حالات التزوير، وقد بلغ عددها التقديري نحو 150 حالة حتى اللحظة، وهي بصدد تشكيل لجنة مختصة لمعالجة هذه الملفات بشكل مؤسسي. وحذر من استغلال الهويات القديمة في عمليات انتحال شخصية، إضافة إلى الاستخدام الواسع للعقود غير المسجلة (البرانية) التي لا تحفظ الحقوق قانونيًا.
تشير أرقام صادمة من القصر العدلي في دمشق لعام 2024 إلى تسجيل أكثر من 3500 دعوى قضائية رفعها مواطنون لاسترداد سندات ملكية تم التلاعب بها. وبحسب التقديرات، يوجد أكثر من 40 ألف حالة تزوير في دمشق وريفها خلال ثلاث سنوات، تليها حلب بـ10 آلاف، ثم حمص بـ8 آلاف، و5 آلاف في بقية المحافظات. وفي عام 2024 فقط، سُجل ما يزيد على 7300 واقعة تزوير موثقة في دمشق، بمعدل يفوق 20 حالة يوميًا، مما يعكس أزمة ممنهجة في إثبات الملكية لا مجرد خروقات فردية.
شبكات التزوير: سياسة “عقابية” تُغيّر وجه الملكية
يرى المحامي حسام الدين ناصيف، المتخصص بشؤون الملكية العقارية، أن ما يحدث منذ سنوات في سوريا لا يمكن اعتباره خروقات قانونية فردية، بل هو “نتيجة منهجية قانونية استُغلّت لتنفيذ غايات سياسية”. يوضح ناصيف لـ”تلفزيون سوريا” أن البلاد تشهد “سياسة عقارية عقابية، جُيّر فيها القانون لشرعنة المصادرات، خصوصًا من خلال محاكم استثنائية كالميدان العسكرية والإرهاب”، مؤكدًا أن آلاف السوريين جُرّدوا من ممتلكاتهم الخاصة، بمخالفة واضحة للدستور.
ويضيف أن واحدة من أكثر الأدوات استخدامًا في هذه الانتهاكات هي الوكالات العقارية المزورة، حيث تلجأ شبكات محمية إلى إصدار وكالات منسوبة إلى أصحاب العقارات الغائبين، مدعمة بأختام وأوراق رسمية مقلدة. هذا الغياب للتدقيق، إضافة إلى تواطؤ بعض الموظفين، سهّل تمرير هذه المعاملات على نطاق واسع، لا سيما في المناطق التي سيطر عليها النظام عقب موجات التهجير.
ويخلص المحامي إلى أن ملف الملكية العقارية في سوريا بالغ التعقيد، خاصة في ظل وجود نسبة كبيرة من الممتلكات غير المثبتة في السجلات الرسمية، إضافة إلى تدمير الوثائق، واختفاء أصحاب الحقوق نتيجة الحرب والاعتقال والتهجير. ويؤكد ناصيف أن استعادة الملكيات تحتاج إلى مرحلة سياسية جديدة ومراجعة شاملة لكل عمليات التوثيق التي جرت خلال سنوات الحرب، داعيًا المتضررين إلى الاحتفاظ بأي وثيقة، فـ”الملكية لا تسقط بالتقادم، والحق لا يموت إن طال الغياب”.
إقرأ ايضاً: أزمة الإيجارات تخنق دير الزور بين أنقاض الحرب وغياب الحكومة