سوريا ما بعد الأسد بين التكويع والمحاسبة الشعبية:
منذ سقوط نظام بشار الأسد قبل نحو عشرة أشهر، تشهد الساحة السورية موجة غير مسبوقة من الانقسام الاجتماعي والتوترات على مواقع التواصل الاجتماعي، تُجسِّدها ظاهرة لغوية جديدة تسللت إلى الخطاب العام، تُعرف بـ “التكويع”، وهي مفردة محلية مشتقة من كلمة “كوع” في إشارة إلى تغيير الاتجاه أو الموقف بشكل مفاجئ.
مصطلح “مكوع” بات يُستخدم اليوم بشكل ساخر أو نقدي للدلالة على الأشخاص الذين كانوا يعيشون في مناطق سيطرة النظام السابق، وكانوا إما صامتين أو مؤيدين له، ثم أصبحوا اليوم مؤيدين للسلطة الانتقالية الجديدة، أو يحسبون أنفسهم على المعسكر الثوري.
من الثورة إلى “التكويع”: قصة بلد منهك:
مع بداية المرحلة الانتقالية في سوريا، غصّت منصات التواصل الاجتماعي بشهادات ومنشورات من سوريين أعلنوا فجأة عن مواقف “ثورية قديمة” كانت مخفية، متحدثين عن معاناتهم تحت حكم النظام السابق، والضغوط التي تعرضوا لها، والطرق التي تم بها التضييق عليهم في أرزاقهم أو تهديدهم. ومع ذلك، يرى جزء كبير من الشارع السوري أن هذه الروايات مدفوعة بتحوّل موازين القوى.
في وقتٍ كان ينتظر فيه السوريون طيّ صفحة الماضي وفتح باب للمصالحة الوطنية، أفرزت المرحلة الانتقالية واقعاً اجتماعياً أكثر تعقيداً، حيث أصبح سؤال “أين كنت في زمن الأسد؟” مقياساً يُحدّد من خلاله موقعك في المجتمع الجديد: هل كنت مع الثورة؟ هل كنت من مؤيدي النظام؟ هل كنت رمادياً تبحث عن لقمة العيش فقط؟
من هو المكوع؟ الجميع.. ولا أحد:
يقول أحد الناشطين على فيسبوك: “بلد الـ 23 مليون مكوع، إذا الشرع كوع، مين أنا حتى ما كوع؟”، في إشارة إلى رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع (المعروف سابقًا باسم أبو محمد الجولاني)، الذي خرج في مقابلة مع شبكة CBS News لينفي ارتباطه بتنظيم القاعدة أو داعش، مؤكدًا أن المرحلة الجديدة تتطلب فك الارتباط مع الماضي بكل تناقضاته.
الشرع نفسه كان في وقت من الأوقات متهماً من قبل خصومه بأنه ساهم في إضعاف فصائل الجيش الحر، وبتسليم مناطق “المحرر” للنظام أو لجهات خارجية، وهو اليوم يقود دولة تحاول أن تتماسك وسط حالة انقسام غير مسبوقة بين السوريين.
التقاذف بدل العدالة:
في ظل غياب آليات واضحة للعدالة الانتقالية، باتت وسائل التواصل الاجتماعي منبراً شعبياً للمحاسبة، ولكن بشكل فوضوي وغير مؤسساتي، مما أدى إلى تفاقم الانقسام الاجتماعي، وتبادل الاتهامات بين مختلف الفئات. الجميع أصبح متهماً: من سكن مناطق النظام، من عاش في المخيمات، من صمت، من تكلّم، ومن نجا.
بلغة السوريين اليوم: “الجميع كَوَع” بطريقة ما. فحتى أولئك الذين احتفظوا بموقف رمادي لسنوات، وجدوا أنفسهم مطالبين بالإجابة عن سؤال قديم يعود للواجهة: “مع مين كنت؟”
العودة إلى الحياة… مؤجلة؟
الطبقية الاجتماعية التي كانت تقسم السوريين سابقاً إلى فقراء وطبقة وسطى وأغنياء، باتت اليوم تُستبدل بتصنيفات سياسية: ثورجي، شبيح، مكوع، رمادي… وهي تسميات تشكل عائقًا حقيقيًا أمام محاولات التعايش أو بناء دولة جديدة.
في ظل هذا الواقع، يبقى الأمل لدى الكثير من السوريين بأن تتوقف هذه “المهاترات الإلكترونية”، ويتم تجاوز منطق الإقصاء والتشكيك، لصالح بناء مستقبل مشترك يستند إلى العدالة لا الانتقام، وإلى المواطنة لا الاصطفاف.
إلى أن يتحقق ذلك، تبقى سوريا، وفق تعبير أحد المعلقين، “حارة كل من إيدو إلو”… لكن بأسماء جديدة.
إقرأ أيضاً: درعا تحت وطأة العنف والاغتيالات: محاولات حكومية ضعيفة لمكافحة الفوضى الأمنية
إقرأ أيضاً: معاذ الخطيب يواجه حملة تكفير وتهديدات.. فمن يقف وراءها؟