رواتب مضاعفة ومعيشة منهكة: هل تضمن الزيادات الأخيرة حياة كريمة للسوريين؟

في شتاء 2025، تبدو معادلة الدخل مقابل تكاليف المعيشة في سوريا أكثر قسوة من الظروف المناخية نفسها. فعلى الرغم من صدور مراسيم حكومية رفعت رواتب القطاع العام بنسب وصلت إلى 400%، إلا أن الواقع المعيشي لم يشهد تحسنًا ملموسًا، إذ ما تزال فواتير الغذاء والطاقة والإيجار تلتهم الدخل قبل منتصف الشهر.

وبين الأرقام المعلنة رسميًا والواقع اليومي للأسر السورية، تتسع فجوة اقتصادية عميقة تطرح سؤالًا محوريًا: هل تستطيع سوريا تأمين أجر عادل يضمن حياة كريمة دون الانزلاق نحو تضخم وانهيار مالي أكبر؟

تصريحات رسمية وأرقام لا تعكس الواقع:

في أحدث تصريح مثير للجدل، قال حازم الشرع، شقيق الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، إن رواتب الموظفين الحكوميين ارتفعت من 29 دولارًا إلى 450 دولارًا، وبنسب تراوحت بين 200% و4000%. غير أن هذه الأرقام، لا تعكس الواقع الفعلي على الأرض.

دخل الأسرة السورية لا يغطي ثلث الاحتياجات:

تشير بيانات الدخل والإنفاق إلى أن متوسط دخل الأسرة السورية يبلغ حاليًا نحو 3.5 ملايين ليرة شهريًا، في حين أن الحد الأدنى لتكاليف المعيشة يتراوح بين 9 و12 مليون ليرة.

هذا يعني أن الأسرة السورية تعيش بعجز شهري يتراوح بين 5.5 و8.5 ملايين ليرة، وأن دخلها لا يغطي سوى 29% إلى 39% من احتياجاتها الأساسية، ما يعكس فقرًا بنيويًا لا يقتصر على ضعف الأجور فقط.

زيادات بلا إنتاج… والتضخم يبتلع الأجور:

اقتصاديًا، تكمن الإشكالية في أن زيادات الرواتب لم تُقابل بزيادة في الإنتاج أو الإيرادات العامة. فالقوة الشرائية بقيت شبه ثابتة، بل تراجعت في بعض القطاعات، نتيجة التضخم وتدهور سعر الصرف.

وبحسب تقديرات السوق، فإن أي زيادة في الأجور من دون ضبط التضخم تتحول خلال أشهر إلى رقم بلا قيمة، ضمن ما يُعرف بـ “الدائرة الخبيثة للأجور والتضخم”: زيادة رواتب توسع نقدي تضخم تآكل الدخل مطالبات جديدة بالزيادة.

عبء مالي ثقيل على الخزينة العامة:

إذا افترضنا أن عدد العاملين في القطاع العام يقارب مليوني موظف، فإن الكلفة الشهرية الجديدة للأجور تصل إلى نحو 5.6 تريليونات ليرة سورية، مقارنة بـ 2.8 تريليون ليرة قبل الزيادات.

أي أن الخزينة تتحمل عبئًا إضافيًا يقارب 33.6 تريليون ليرة سنويًا، في وقت يعاني فيه الاقتصاد السوري من:

1- انكماش حاد

2- تراجع الصادرات

3- ضعف القاعدة الضريبية

4- محدودية الموارد المستدامة

دعم خارجي مؤقت بدل حلول مستدامة:

خلال الأشهر الماضية، تم تمويل جزء من الرواتب عبر دعم سعوديقطري مشترك بقيمة 89 مليون دولار بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ولمدة ثلاثة أشهر فقط.

ويرى خبراء أن هذا الدعم، رغم أهميته، حل مؤقت لا يمكن البناء عليه كسياسة مالية دائمة، في ظل غياب إصلاحات إنتاجية حقيقية.

خبراء: سياسة الأجور الحالية غير مستدامة:

ماجد المصطفى: الأجر العادل مفهوم إشكالي

يرى الخبير الاقتصادي ماجد المصطفى أن مفهوم الأجر العادل في سوريا لا يمكن اختزاله برقم ثابت، في ظل:

1- غياب سلة رسمية محدثة لكلفة المعيشة

2- تفاوت الأسعار بين المناطق

3- ضعف البنية الإنتاجية

وقدّر المصطفى أن الأجر القريب من “العدل” قد يصل إلى 700 دولار شهريًا للأسر غير المالكة لمساكن، وهو رقم يعكس فجوة المعيشة أكثر مما يعكس قدرة الاقتصاد الحالية.

عامر شهدا: الإنتاج أساس الاستقرار المالي

يؤكد الخبير الاقتصادي عامر شهدا أن رفع الأجور دون زيادة الإنتاجية محكوم بالفشل، مشيرًا إلى أن الحكومة اعتمدت على:

1- ضرائب ورسوم غير كافية

2- منح خارجية مؤقتة

3- غياب مشاريع إنتاجية كبرى

وأوضح أن سوريا استوردت خلال عام واحد سلعًا بقيمة 9 مليارات دولار، مقابل صادرات لم تتجاوز 600 مليون دولار، ما خلق عجزًا تجاريًا حادًا انعكس على سعر الصرف.

محمود مرعي: الأجور لا تكفي لحياة كريمة:

بدوره، يرى المحامي محمود مرعي أن الحد الأدنى الذي يضمن حياة مقبولة للأسرة السورية لا يقل عن 400500 دولار شهريًا، في حين يعيش نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر.

وأشار إلى أن تدني الأجور دفع آلاف الكفاءات، من أطباء ومهندسين، إلى الهجرة، ما تسبب بـ نزيف بشري ومهني خطير.

إصلاح اقتصادي قبل أي زيادة جديدة:

يجمع الخبراء على أن زيادة الرواتب وحدها لا تكفي، وأن الحل يبدأ بـ:

1- تحفيز الإنتاج

2- إعادة الإعمار

3- إصلاح ضريبي ونقدي

4- ضبط التضخم

5- بناء اقتصاد حقيقي مولّد للقيمة

ودون ذلك، سيبقى السوري “غنيًا بالأرقام وفقيرًا في الواقع”، وسيظل حلم الدخل اللائق مؤجلًا إلى إشعار آخر.

إقرأ أيضاً: إلغاء قانون قيصر يفتح مرحلة جديدة أمام الاقتصاد السوري بعد سنوات من العزلة

إقرأ أيضاً: خبير اقتصادي: رفع العقوبات قد يزيد الإغراق والاستيراد… وليس الاستثمار!

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.