دولرة الأسعار في سوريا: لماذا حلّ الدولار محل الليرة في الأسواق؟ ومن الرابح والخاسر؟

تشهد الأسواق التجارية في سوريا تحوّلاً متسارعاً في آليات تسعير السلع، حيث بات الدولار الأميركي مرجعية أساسية لتحديد الأسعار في عدد متزايد من القطاعات، لا سيما الألبسة والسلع المستوردة والإيجارات والخدمات، في مشهد يعكس أزمة ثقة عميقة بالعملة الوطنية.

وقبل سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، كان التعامل بالدولار يُعد جريمة يعاقب عليها القانون، ويقتصر استخدامه على التجارة الخارجية. أما اليوم، ومع إضفاء الشرعية على تداول الدولار، تمدّد استخدامه إلى الأسواق الداخلية، ليصبح أداة تسعير وتحوط في آن واحد.

لماذا انتشر التسعير بالدولار في الأسواق السورية؟

يُعدّ هذا التحوّل ردّة فعل مباشرة على التقلبات الحادة في سعر صرف الليرة السورية، والتي وضعت التجار أمام مخاطر يومية تهدد رؤوس أموالهم. ففي ظل غياب الاستقرار النقدي، فقدت الليرة وظيفتها كـمخزن للقيمة ومرساة للتسعير، ما دفع السوق تلقائياً إلى الاحتماء بالدولار.

بدأ الأمر كممارسات فردية، قبل أن يتحوّل تدريجياً إلى ظاهرة واسعة تطال معظم الأسواق، حيث يُحدَّد السعر بالدولار بينما يتم الدفع بالليرة وفق سعر الصرف في يوم الشراء.

الدولار كأداة تحوّط لا كخيار ترفي:

يقول تجار في دمشق لـ “تلفزيون سوريا” إنهم لا يفضّلون التسعير بالدولار، لكن التذبذب السريع لليرة يفرض عليهم ذلك. فبيع البضائع بالليرة فقط، يعني احتمال تكبّد خسائر كبيرة خلال أيام قليلة.

ويؤكدون أن دولرة التسعير ليست وسيلة ضغط على المستهلك، بل محاولة للبقاء في السوق وضمان الاستمرارية، في ظل غياب أدوات حماية من تقلبات الصرف أو سياسات نقدية مستقرة.

راتب بالليرة… وأسعار بالدولار:

في المقابل، يُعدّ المواطنون أصحاب الدخل الثابت الخاسر الأكبر من هذه المعادلة. فالأجور تُدفع بالليرة السورية، وتبقى شبه جامدة، بينما الأسعار تتحرك مع الدولار صعوداً، ما يؤدي إلى تآكل متسارع في القوة الشرائية.

ويقول موظفون وربّات منازل إن التسوق بات عملية غير متوقعة الكلفة، مع تغيّر الأسعار يومياً، ما يضع الأسر في حالة قلق دائم، ويدفعها إلى تقليص الاستهلاك أو استنزاف المدخرات.

رأي الخبراء: دولرة تسعير لا دولرة كاملة:

يؤكد خبراء اقتصاد أن ما تشهده سوريا ليس دولرة كاملة، بل “دولرة تسعير”، حيث يُستخدم الدولار كمرجع للأسعار حتى وإن جرى الدفع بالليرة.

ويشيرون إلى أن:

1- التضخم المرتفع

2- فقدان الثقة بالسياسات النقدية

3- ضعف احتياطات القطع الأجنبي

4- الخوف من تغييرات محتملة في العملة

كلها عوامل دفعت السوق إلى ربط الأسعار بسعر الصرف الموازي، الذي بات يُنظر إليه بوصفه السعر الفعلي المعكس للكلفة الحقيقية.

لماذا يعتمد التجار على سعر السوق السوداء؟

يرتبط ربط الأسعار بسعر السوق الموازية بفقدان سعر الصرف الرسمي دوره كمرجعية موثوقة. فمحاولات توحيد الأسعار خلال السنوات الماضية لم تُرفق بتحسّن اقتصادي فعلي أو قدرة حقيقية على التدخل في السوق.

ونتيجة لذلك:

1- تحوّلت النشرات الرسمية إلى أداة إدارية

2- بينما أصبح السعر الموازي هو المرجع الحقيقي للتسعير والاستيراد

من الرابح ومن الخاسر؟

الخاسرون:

1- أصحاب الدخل الثابت

2- المستهلكون محدودو القدرة الشرائية

3- القطاعات الإنتاجية المحلية الموجّهة للسوق الداخلي

الرابحون نسبياً:

1- التجار القادرون على التحوّط

2- من يملكون دخلاً أو تسعيراً بالدولار

3- الأنشطة المرتبطة بالاستيراد أو التصدير

أثر الدولرة على الإنتاج المحلي والأمن الغذائي:

تضع دولرة الأسعار الصناعة والزراعة أمام معادلة صعبة:

1- رفع الأسعار يعني خسارة الطلب المحلي

2- تثبيتها يعني تآكل الهوامش وربما التوقف

وفي الزراعة، قد تدفع الدولرة إلى تغيير التركيب المحصولي نحو محاصيل قابلة للتصدير، على حساب الأمن الغذائي المحلي.

الخطر الأكبر: من سلوك دفاعي إلى اقتصاد موازٍ:

يحذّر خبراء من أن استمرار دولرة التسعير قد يحوّلها من سلوك دفاعي مؤقت إلى بنية سوق موازية تُضعف دور العملة الوطنية، وتوسّع الاقتصاد غير الرسمي، وتُفرغ السياسة النقدية من أدواتها.

ومن أخطر نتائج هذا المسار:

1- ارتفاع الأسعار بسرعة مع صعود الدولار

2- عدم انخفاضها بنفس الوتيرة عند تراجعه

3- ترك أثر دائم على مستوى المعيشة

خيارات حكومية محدودة ولكن ضرورية:

تواجه الحكومة معضلة مركّبة بين التضخم والانكماش، ما يستدعي:

1- سياسة نقدية أكثر وضوحاً وشفافية

2- دعم القطاعات الإنتاجية، خاصة الزراعة

3- توجيه السيولة نحو النشاطات المولّدة للقيمة

4- استعادة الثقة بالليرة عبر إجراءات اقتصادية حقيقية لا إدارية فقط

من دون ذلك، ستبقى دولرة التسعير نتيجة طبيعية لاختلال اقتصادي عميق، لا يمكن احتواؤها بقرارات شكلية.

إقرأ أيضاً: توقعات سعر صرف الليرة السورية: 3 سيناريوهات تحدد مستقبل الدولار في سوريا

إقرأ أيضاً: تقرير أميركي: الاقتصاد السوري أمام مفترق طرق بين الانهيار وفرص التعافي

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.