الإخوان المسلمون في سوريا: من الحضور الشعبي إلى العمل في المنفى (الجزء الثاني)
داما بوست -أسعد موسى
البدايات والتأسيس
تعود جذور جماعة الإخوان المسلمين إلى مصر عام 1928 حين أسسها حسن البنّا، قبل أن تمتد أفكارها وتنظيمها إلى سوريا عبر مصطفى السباعي، الذي تعرّف على البنّا أثناء دراسته في الأزهر. عند عودته، أسس عام 1945 “الإخوان المسلمين في عموم القطر السوري”، وقاد الجماعة حتى عام 1961، جامعًا بين العمل الدعوي والسياسي، حيث شغل منصب نائب في البرلمان وعميد في جامعة دمشق.
منذ الاستقلال عام 1946 وحتى وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، شارك الإخوان في الحياة النيابية والعمل البلدي والنقابي، وتقاطعت مواقفهم الفكرية مع تيارات إصلاحية ومحافظة في المدن الكبرى مثل حلب وحماة وحمص ودمشق. خلال تلك الحقبة، لم تكن الجماعة عرضة لاضطهاد سياسي مباشر، بل عملت كغيرها من الأحزاب ضمن بيئة سياسية متنافسة.
إقرأ أيضاً: بيان الإخوان المسلمين في سوريا بعد سقوط النظام: تحوّل في الخطاب أم مناورة سياسية؟
المواجهة مع البعث وصعود “الطليعة المقاتلة”
بعد عام واحد من وصول البعث إلى الحكم، اندلعت احتجاجات حماة عام 1964 رفضًا لسياسات النظام. انتهت هذه الاحتجاجات بقمع عسكري أدى إلى سقوط نحو 100 قتيل، وشكّلت أول مواجهة كبرى بين بيئات متدينة محافظة والسلطة. عقب ذلك حُظرت جماعة الإخوان، لكن العمل السري استمر، فيما برز مروان حديد مؤسسًا لتيار راديكالي في حماة عُرف بـ«الطليعة المقاتلة» التي تبنت العمل المسلح والاغتيالات.
تباينت مواقف قيادة الإخوان من هذا النهج، إذ أعلن المراقب العام عدنان سعيد فصل أي منتسب للطليعة المقاتلة، مع استثناء مدينة حماة لاعتبارات خاصة. ومع ذلك، واصلت الطليعة تنفيذ عمليات كبيرة أبرزها مجزرة مدرسة المدفعية في حلب عام 1979 ومحاولة اغتيال حافظ الأسد في يونيو 1980. أعقب ذلك إصدار القانون 49 الذي نص على عقوبة الإعدام لكل منتمٍ للجماعة، ما شكّل نقطة تحول مفصلية في مسارها.
حماة 1982 والمنفى
في فبراير 1982، قرر النظام السوري القضاء على التمرد في حماة بعملية عسكرية واسعة أسفرت عن مقتل وفقدان عشرات الآلاف، وانتهت باستئصال شبه كامل للجماعة داخل سوريا وتفكك “الطليعة المقاتلة”. منذ ذلك الحين، تحوّل الإخوان إلى العمل من الخارج، مع تراجع تأثيرهم الداخلي إلى الحد الأدنى.
من خطاب العنف إلى الإصلاح
خلال التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة، دخلت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا مرحلة مراجعات فكرية وسياسية عميقة، كان هدفها إعادة صياغة صورتها وخطابها بعد عقود من الصدام مع النظام وما ترتب عليه من قمع واستئصال داخلي. فتبنّت القيادة خطابًا إصلاحيًا واضح المعالم، يرفض العنف كأداة للتغيير، ويركز على العمل السياسي السلمي، والتحالف مع القوى الوطنية الأخرى، والانفتاح على التيارات الفكرية المختلفة، في محاولة لتجاوز إرث الماضي وتقديم نفسها كفاعل سياسي مسؤول.
وسعت الجماعة إلى تعزيز حضورها في أطر المعارضة السورية في الخارج، فكانت مشاركتها البارزة في “إعلان دمشق” عام 2005، الذي جمع طيفًا واسعًا من قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية والإسلامية والقومية والليبرالية، على أرضية مشتركة تدعو إلى التغيير السلمي وبناء دولة مدنية ديمقراطية. هذه المشاركة مثّلت بالنسبة للإخوان خطوة استراتيجية نحو الاندماج في مشروع وطني جامع، بعيدًا عن الانغلاق التنظيمي أو الأجندة الفئوية.
بعد 2011: الحضور السياسي دون جناح عسكري
لم يتمكن الإخوان من الهيمنة على الثورة السورية، إذ تعددت الفصائل وتباينت الجهات الداعمة. حظيت الجماعة بدعم تركيا وقطر، في حين دعمت السعودية والإمارات أطرافًا مناوئة لها. سياسيًا، كان حضور الإخوان مؤثرًا في المجلس الوطني السوري ثم الائتلاف الوطني، بينما عسكريًا فضّلوا عدم تأسيس جناح مسلح رسمي، مكتفين بدعم مظلات فصائلية مثل “هيئة دروع الثورة” و”فيلق الشام”.
هذا النهج عكس دروس الماضي، خاصة تجربة “الطليعة المقاتلة” وما ترتب عليها من نتائج كارثية، إذ سعى الإخوان إلى الحفاظ على خطاب براغماتي وتجنب التصادم المباشر. ومع صعود التيارات السلفية الجهادية كـ”داعش” و”جبهة النصرة”، اصطدمت هذه التنظيمات بفصائل مدعومة من الإخوان، ما قلّص قدرتهم على التأثير الميداني.
إلا أن هذه الاستراتيجية، التي بدت في ظاهرها مدروسة ومنضبطة، وجدت نفسها أمام اختبار قاسٍ مع تغير المشهد السوري بسرعة، وتعدد القوى الميدانية والسياسية، وارتفاع سقف المطالب والشعارات، لتجد الجماعة نفسها أمام تحديات جديدة تتعلق بمدى قدرتها على ترجمة خطابها الإصلاحي إلى نفوذ ملموس في سياق ثوري مفتوح على احتمالات متعددة.
التحديات المستفادة من المسار التاريخي
واجهت جماعة الإخوان المسلمين جملة من التحديات التي تركت بصماتها على خياراتها اللاحقة:
التعامل مع الانقسام الداخلي: الخلاف بين القيادة السياسية في الخارج والجناح المسلح في الداخل خلال السبعينيات عمّق الانقسام وأضعف وحدة القرار.
تكلفة الخيار المسلح: تجربة “الطليعة المقاتلة” أظهرت أن العمل المسلح المباشر ضد النظام جرّ نتائج كارثية، أبرزها القانون 49 والمجازر الكبرى.
العمل من المنفى: الانتقال إلى الخارج حدّ من قدرة الجماعة على التواصل المباشر مع قاعدتها الاجتماعية التقليدية، وأبقى تأثيرها مرهونًا بالتحالفات الدولية.
التوازن بين الأيديولوجيا والبراغماتية: الانتقال من خطاب ثوري إلى إصلاحي فرض تحديات في إقناع القواعد الميدانية بجدوى هذا المسار.
التنافس مع تيارات إسلامية أخرى: صعود السلفية الجهادية بعد 2011 قلّص هامش نفوذ الإخوان في الساحة المسلحة، وأجبرهم على تركيز نفوذهم في السياسة والإغاثة.
وإلى جانب كل ذلك، ظل الإرث القانوني والسياسي يثقل كاهل الجماعة، إذ إن استمرار العمل بالقانون 49، وعدم إلغائه من قبل الحكم الجديد في دمشق، شكّل حالة من الإرباك، حتى ولو على المستوى المعنوي، بما يحافظ على شعور دائم بالتهديد ويعرقل أي محاولة لعودة طبيعية إلى المشهد السياسي الداخلي.
يُظهر المسار التاريخي للإخوان في سوريا انتقالهم من حركة جماهيرية ذات حضور داخلي واسع إلى تنظيم سياسي يعمل من المنفى ويعتمد على التحالفات الإقليمية. وبينما كان العنف المتبادل في الثمانينيات نقطة كسر، جاءت مرحلة ما بعد 2011 لتؤكد أن ثقل الجماعة بقي في السياسة والدبلوماسية. ومع غياب المشاركة في الحياة السياسية بعد سقوط النظام، يواجه الإخوان تحدي إعادة التموضع في الداخل، في ظل بقاء القيود القانونية والسياسية التي ورثوها من عقود الصراع.
إقرأ أيضاً: الإخوان في سوريا 2025: هل هو تموضع سياسي أم محاولة للفرار من المسؤولية؟
إقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون في سوريا يصدرون بياناً شاملاً: رؤية للمرحلة الجديدة بعد التحرير