الإسمنت في سوريا بين توقف المعامل وتدفق المستورد

تعيش صناعة الإسمنت في سوريا واحدة من أعقد مراحلها منذ سقوط النظام، مع توقف معظم المعامل الحكومية عن العمل، واعتماد السوق بشكل شبه كامل على الإسمنت المستورد القادم من تركيا ومصر والأردن والسعودية. هذه التحولات لا تنعكس فقط على العمال والمعامل المتوقفة، بل تمتد آثارها إلى سوق العقارات وكلفة إعادة الإعمار.

معامل متوقفة وعمال بلا عمل

أحد العاملين في معمل إسمنت طرطوس، فضّل عدم ذكر اسمه، أوضح لـ”المدن” أن قسم الرقابة الداخلية أُلغي بقرار رسمي منذ سقوط النظام، ولم يوضع بديل عنه حتى الآن. ويشير إلى أن المعمل متوقف عن الإنتاج منذ ما قبل التغيير السياسي، وما يزال ينتظر عروض استثمار جديدة، فيما يعتمد السوق على الإسمنت المستورد الأرخص سعرًا.

ويقول العامل إن تكلفة طن الإسمنت المحلي تجاوزت 2.5 مليون ليرة قبل سقوط النظام (نحو 217 دولارًا حينها)، في حين أن سعر الطن المستورد المتداول حاليًا لا يتجاوز 1.4 مليون ليرة (127 دولارًا تقريبًا). هذا الفارق الكبير جعل المعامل المحلية خارج المنافسة، ودفع بالعمال إلى البقاء في منازلهم، يتقاضون رواتبهم من دون دوام فعلي، بعد أن تعطلت أنظمة الورديات والنقل.

أسباب التوقف والعرض للاستثمار

مدير الشركة العامة للإسمنت ومواد البناء “عمران”، المهندس محمود فضيلة، أكد لـ”المدن” أن توقف معمل طرطوس يعود إلى عدة عوامل، بينها قِدم المعدات وانتهاء عمرها الافتراضي، وعدم توفر المواد الخام بشكل كافٍ، إضافة إلى الإهمال.

ويضيف أن المعمل مطروح للاستثمار حاليًا ليكون محطة طحن كلنكر، عبر استيراده وطحنه محليًا لإنتاج إسمنت يطابق المواصفات القياسية السورية. وأوضح أن باب التقدم مفتوح حتى 21 أيلول/سبتمبر الجاري، مع توقع تقدم نحو 20 شركة عربية وعالمية.

كما يشير فضيلة إلى أن ارتفاع كلفة الطاقة واستهلاك الكهرباء، إلى جانب قدم خطوط الإنتاج، جعل المعمل غير قادر على المنافسة. لكنه كشف أن “الشركة العامة للإسمنت” تدرس إعادة تأهيل بعض الخطوط باستخدام تقنيات حديثة لخفض الكلفة وجعل الإنتاج المحلي منافسًا للمستورد.

المنافسة مع المستورد

في المقابل، يرى الخبير الاقتصادي عامر ديب أن دخول الإسمنت التركي والمصري والأردني والسعودي بأسعار تتراوح بين 100 و123 دولارًا للطن، مقابل 217 دولارًا للمنتج المحلي سابقًا، يجعل المنافسة شبه مستحيلة.

ويوضح ديب أن السبب الرئيسي وراء ارتفاع كلفة الإنتاج المحلي يكمن في الطاقة وقطع الغيار التي تشكل 65% من الكلفة الإجمالية. ويعتبر أن غياب الدعم الحكومي أو عقود استثمارية جديدة يفاقم تراجع الصناعة الوطنية، ويفتح الباب أمام فقدانها حصتها السوقية.

أثر مباشر على سوق العقارات والإعمار

رغم أن سعر الإسمنت ليس العامل الوحيد في تحديد أسعار العقارات، فإن انخفاض سعر المستورد ينعكس على كلفة البناء، خصوصًا في المشاريع الصغيرة والمتوسطة. ويرى ديب أن استقرار الأسعار المنخفضة قد يسهم في تهدئة نسبية لسوق البناء.

أما على مستوى إعادة الإعمار، فيوضح أن سوريا تحتاج كميات ضخمة تتجاوز بكثير الطاقة الإنتاجية الحالية (نحو 10 آلاف طن يوميًا). ما يجعل الاستيراد خيارًا شبه حتمي لتغطية الفجوة بين العرض والطلب، رغم مخاطر التبعية للخارج.

ويضيف أن إعادة تدوير مخلفات الأبنية المهدمة خيار استراتيجي لتقليل الاعتماد على الإسمنت المستورد، مشيرًا إلى أن دولًا مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية نجحت في اعتماد الركام المعاد تدويره بنسبة تصل إلى 20% من احتياجات البناء.

صناعة وطنية على المحك

خلاصة المشهد، بحسب ديب، أن الاعتماد على الإسمنت المستورد يوفر مكاسب قصيرة المدى تتمثل في خفض كلفة البناء والإعمار، لكنه يهدد مستقبل الصناعة الوطنية. ومع استمرار توقف المعامل المحلية وغياب خطط استثمار جدية، تبقى السوق السورية مرتهنة لعجلة الاستيراد، وسط سؤال مفتوح: هل تعود صناعة الإسمنت المحلية إلى المنافسة، أم تُترك لصالح البدائل الخارجية الأرخص؟

اقرأ أيضاً:انطلاق معرضخان الحرير – موتكس في دمشق لدعم الصناعة النسيجية

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.