دمشق.. حين يصبح “الفروغ” ساحة حرب بين الذاكرة والمال

داما بوست -خاص

في ظهيرة أحد أيام الصيف الحارقة، يتهادى نور الشمس عبر نوافذ سوق “الحميدية” العتيق، ليعكس ظلالاً متشابكة على وجوه التجار الذين تجمعوا حول مقهى “النوفرة”، يحملون بين أيديهم أوراقاً صفراء بالية.. عقوداً تعود إلى زمنٍ مضى، حين كان “الفروغ” مجرد كلمة عادية في قاموس الحياة التجارية بدمشق.

 

ذاكرة المحلات التي صارت بيوتاً

يقف أبو رامي، صاحب محل الأقمشة الذي ورثه عن أبيه، يمسك بيد مرتعشة ذلك العقد المطبوع على ورق شبه ممزق، يحكي كيف كان والده يدفع لمالك المحل الأصلي عشر ليرات سورية كل شهر، ثم صارت مئة، ثم ألف.. بينما تحول المحل الصغير إلى علامة تجارية معروفة، وصار “الفروغ” الذي دفعه ذات يوم ثمن شقة في حي ركن الدين.

في الزقاق المقابل، تجلس أم محمد خلف منضدتها الخشبية، تروي كيف كانت جدتها تبيع في هذا المحل ذاته خيوط الحرير التي تنسجها يدوياً، بينما المالك الأصلي يأتي في نهاية كل عام ليأخذ حصته من الأرباح، كانوا يسمونها “حق الأرض”، قبل أن تتحول إلى ما يعرف اليوم بـ”الفروغ”.

 

وزارة الأوقاف.. الشبح الذي يعود من الماضي

لكن القصة لا تنتهي عند التجار والمالكين الأفراد، ففي أدراج وزارة الأوقاف، تقبع سجلات تثبت أن معظم هذه المحلات تعود إلى أوقاف إسلامية، سُجلت منذ قرون لتمويل المساجد والمدارس. يقول الموظف الذي فضل عدم ذكر اسمه: “هذه أملاك وقفية، كان يجب أن تدر دخلاً للأعمال الخيرية، لكنها تحولت إلى مكاسب شخصية”.

في المقابل، يرد المحامي نزار قنواتي: “العقود الموقعة قانونية، والتجار حولوا هذه المحلات من مجرد جدران إلى علامات تجارية شهيرة، بجهودهم وأموالهم”.

 

الشارع ينقسم.. بين “حق التاجر” و”عدالة المالك”

في مقهى “الزهراء” الشعبي، يتجادل رواد المقهى كل مساء:

“التجار استغلوا القوانين القديمة ليهيمنوا على الأسواق”، يقول شاب يعمل في قطاع العقارات.

بينما يقاطع رجل ستيني: “أبي دفع ثمن هذا المحل مرتين، مرة حين اشترى الفروغ، ومرة حين كان يدفع الضرائب والرشاوى ليحميه خلال الأزمات”.

 

الدولة.. اللاعب الخفي في المعادلة

يتناقل التجار في جلساتهم المسائية أخباراً عن نية الحكومة “للاستيلاء” على هذه المحلات، خاصة بعد أن أصبحت تقع في قلب المناطق التجارية الأكثر قيمة. يقول أحدهم: “يريدون تحويل السوق إلى مولات حديثة، نحن عائق أمام مشاريعهم”.

لكن مسؤولاً اقتصادياً يوضح: “نحن أمام معضلة حقيقية، فمن ناحية هناك حقوق تاريخية للتجار، ومن ناحية أخرى هناك ضرورة لتحديث المنظومة التجارية”.

 

الخوف من أن تصبح الذكريات أرقاماً في سجلات

في نهاية اليوم، يعود أبو رامي إلى محله، يمرر يده على الجدار الحجري الذي شهد أربعة أجيال من عائلته، يتساءل: “هل سأكون آخر من يجلس هنا؟ هل سيحولون هذا المكان إلى رقم في ملف حكومي، وينسى الناس أن هنا كان يوجد بيتٌ لقصص وحكايات؟”.

بينما في مبنى الوزارة، يناقشون بأرقام وجداول، قيمة هذه الأمتار المربعة، وسعر الإيجار الجديد، ونسبة الزيادة السنوية.. وكأنهم يتحدثون عن قطع أثاث مستعملة، لا عن ذاكرة مدينة عاشت قروناً.

 

دمشق التي نعرفها.. هل تتحول إلى مجرد سجل عقاري؟

في زوايا الأسواق، تتراقص ظلال آخر النهار، تحمل معها همسات التجار القدامى، وأصوات الملاك الذين رحلوا، وصراخ المسؤولين الذين يريدون “التحديث”، وصمت الأوقاف التي تنتظر استعادة ما فقدته منذ زمن.. وفي الوسط، تقف دمشق حائرة، بين أن تبقى مدينة تحكي قصصاً، أو تصبح مجرد سوق كبيرة تحسب كل شيء بالدولار.

 

إقرأ أيضاً: تجار حلب ودمشق يحتجون على قرارات تهدد نظام الفروغ التجاري

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.