هيئة تحرير الشام: رحلة التحولات من الجهاد إلى البراغماتية، هل يمكن الوثوق بها؟ (الجزء الأول)
داما بوست -يوسف المصري
أبرز النقاط الجوهرية
- النشأة والتطور: بدأت جبهة النصرة كفرع للقاعدة في سوريا عام 2011، ثم تحولت إلى جبهة فتح الشام في 2016 لفك الارتباط التنظيمي، وأخيراً إلى هيئة تحرير الشام في 2017 لتوحيد الفصائل وتأكيد السيطرة.
- الصراعات الداخلية والسيطرة: خاضت الهيئة صراعات عنيفة مع فصائل الجيش الحر، مدفوعة باختلافات أيديولوجية وتنافس على الموارد، مما أسفر عن سيطرتها على إدلب وريف حلب، ونتائج وخيمة على المدنيين.
- البراغماتية المتناقضة: رغم تاريخها في تكفير من يتعامل مع الغرب، سعت الهيئة لاحقاً للتواصل مع جهات غربية، مما أثار تساؤلات حول مصداقيتها وأهدافها الحقيقية، بينما تظل الثقة بها محدودة.
يُعد مسار جبهة النصرة، وصولاً إلى هيئة تحرير الشام، واحداً من أكثر التحولات تعقيداً وديناميكية في المشهد السوري. منذ تأسيسها، اتسمت هذه الجماعة بسلسلة من التغيرات الاسمية والتنظيمية التي هدفت إلى إعادة تعريف دورها وتكييف صورتها مع التحديات الإقليمية والدولية المتغيرة. يهدف هذا التحقيق الصحفي إلى تسليط الضوء على هذه المراحل المفصلية، بدءاً من نشأتها ككيان جهادي، مروراً بتحولاتها الاستراتيجية، وصولاً إلى سيطرتها على الحكم في سوريا، مع التركيز على صراعاتها الداخلية والخارجية وتأثيرها على المدنيين.
جبهة النصرة: النشأة والأهداف الأولية:
تأسيس كيان جهادي لمقاومة نظام الأسد
البدايات والأيديولوجية
تأسست جبهة النصرة لأهل الشام في أواخر عام 2011، وأعلنت عن تشكيلها الرسمي في 23-24 يناير 2012. جاءت هذه الجبهة كامتداد لجماعات جهادية، بقيادة أبو محمد الجولاني وعدد من المقربين إليه، بهدف رئيسي هو مقاومة نظام الأسد في سوريا وإقامة دولة إسلامية. كانت النصرة تُعرف في بداياتها بكونها فرعاً لتنظيم القاعدة في بلاد الشام، مما عكس طابعها الجهادي السلفي الصريح ضمن الثورة السورية.
التحولات الاستراتيجية: من النصرة إلى فتح الشام
فك الارتباط بالقاعدة ومحاولة كسب الشرعية
أسباب التحول المعلنة
في يوليو 2016، أعلنت جبهة النصرة تحولها رسمياً إلى “جبهة فتح الشام”. جاء هذا التحول بقرار من الجولاني، وكان الهدف المعلن هو فك الارتباط التنظيمي مع تنظيم القاعدة. تركزت الدوافع وراء هذا القرار على محاولة تخفيف الطابع الجهادي المباشر، وتجاوز الولاء للقاعدة، وتحسين العلاقات مع الفصائل الأخرى داخل المعارضة السورية. كما سعت الجبهة إلى الظهور كقوة إسلامية محلية وليست إرهابية بالمعنى التقليدي، وذلك في محاولة لكسب قبول سياسي وميداني أوسع.
من قرّر التغيير وتأثيره الداخلي
كان قرار التحول بيد قيادة التنظيم، وتحديداً أبو محمد الجولاني. ومع ذلك، لم يلق هذا القرار إجماعاً كاملاً داخل الصفوف. فقد رافقه جدل ورفض من بعض العناصر المتشددة الذين رأوا في البقاء ضمن تنظيم القاعدة ضرورة أيديولوجية. أثر هذا الرفض على وحدة قواعدها، وأدى إلى انشقاقات محدودة، كما تراجع الدعم في بعض المناطق المحلية بسبب مخاوف من فقدان التنظيم لطابعه الجهادي الأصيل.
هيئة تحرير الشام: توحيد القوى وسيطرة الإدلب
إعادة هيكلة شاملة لفرض الهيمنة
دوافع إعادة الهيكلة
في 28 يناير 2017، تحولت جبهة فتح الشام إلى “هيئة تحرير الشام” (HTS) من خلال اندماجها مع جماعات أخرى مثل أنصار الدين وجيش السنة ولواء الحق وحركة نور الدين الزنكي. هدفت هذه الخطوة إلى توحيد القوى الجهادية والإسلامية في شمال غرب سوريا ضمن كيان واحد، بهدف السيطرة الإدارية والعسكرية على مناطق نفوذ واسعة. سعت الهيئة أيضاً إلى تحسين صورتها داخلياً وخارجياً وتقديم نفسها كقوة مركزية وموحدة في الشمال السوري.
صراعها مع فصائل الجيش الحر: حرب على السلطة والأيديولوجيا
أسباب الصراع وتداعياته
أدت عملية التحول إلى هيئة تحرير الشام إلى صراعات حادة مع فصائل “الجيش الحر” وغيرها من الفصائل المعارضة. كانت هذه الصراعات متعددة الأوجه وشملت:
- الاختلاف الأيديولوجي: تباينت الرؤى بين فصائل ذات توجه جهادي صرف (كالهيئة) وأخرى ذات توجه إسلامي وطني.
- السيطرة على الموارد: تنافست الفصائل على السيطرة على الطرق الحيوية، والأنفاق، والموارد الاقتصادية الأخرى.
- خلافات على الإدارة المحلية: سعت الهيئة لفرض نموذج إداري مركزي خاص بها، مما تعارض مع نماذج الإدارة التي كانت تتبناها الفصائل الأخرى.
أسفرت هذه الصراعات عن نتائج كارثية على المدنيين في إدلب وريف حلب، وشملت نزوحاً واسعاً، واختطافات، ومحاكمات ميدانية، وفرض أحكام شرعية صارمة من قبل هيئة تحرير الشام. كما شنت الهيئة حملات تصفية ضد خصومها، مما أضعف قدرة هذه الفصائل على منافسة الهيئة على السلطة في المناطق الخاضعة لسيطرتها.

البراغماتية المتناقضة: التعامل مع الغرب ومسألة الثقة
اتهامات التعامل مع الغرب وظاهرة التكفير
تغيّر الخطاب والاستراتيجية
في مراحل سابقة، اتهمت هيئة تحرير الشام الفصائل الأخرى بالتعامل مع الغرب، ووصفت ذلك بـ”التكفير” لأي تعاون يُعتبر خيانة أيديولوجية. كان هذا الموقف يعكس أيديولوجيتها المتشددة آنذاك. ومع ذلك، وبعد ترسيخ سيطرتها في إدلب، بدأت الهيئة في تغيير خطابها ومحاولة الظهور بمظهر أكثر براغماتية. تشير تقارير إعلامية إلى أن الهيئة سعت للتواصل مع الدول الغربية في سياقات دبلوماسية أو إغاثية أو تفاوضية، في محاولة للحصول على دعم اقتصادي أو لرفعها من قوائم الإرهاب. هذا التناقض بين موقفها السابق في تكفير المتعاملين مع الغرب وبين سعيها للتواصل معه، أثار تساؤلات جدية حول صدقيتها وهدفها النهائي.
الثقة في الهيئة بعد تصفية الخصوم
بعد أن قامت هيئة تحرير الشام بتصفية خصومها في إدلب وريف حلب وفرضت سيطرتها الكاملة، تتجدد التساؤلات حول مدى إمكانية الوثوق بها. إن سجل الهيئة في محاربة وتصفية خصومها داخلياً، وتناقض تصريحاتها بين التكفير والتعامل البراغماتي مع الغرب، يجعل الثقة بها محدودة ومتحفظة. يرى كثيرون من المعارضين السوريين أنها أداة تمسك بالسلطة بطرق قمعية واستراتيجية تحكم عسكرية، أكثر من كونها حركة ثورية أو إسلامية تحمل مشروعاً سياسياً واضحاً ومستقلاً. لم تقدم الهيئة ضمانات كافية تزيل هذه الشكوك، وتظل مخاوف المجتمع الدولي قائمة بسبب ماضيها كفرع للقاعدة.

ملخص لمراحل التحول الرئيسية
يلخص الجدول التالي أبرز المراحل التي مرت بها جبهة النصرة في تطورها إلى هيئة تحرير الشام، مع الأسباب والدوافع والنتائج.
خارطة طريق التطور: من القاعدة إلى الحكم الذاتي
يوضح المخطط الذهني أدناه المسار المعقد لتطور جبهة النصرة إلى هيئة تحرير الشام، مبرزًا الدوافع الرئيسية لكل مرحلة والتحديات التي واجهتها.
الخاتمة
شكلت هيئة تحرير الشام، بتطوراتها المتسلسلة من جبهة النصرة ثم جبهة فتح الشام، واحدة من القوى الفاعلة والمؤثرة في المشهد السوري. رحلتها من كيان جهادي تابع للقاعدة إلى قوة تسيطر على مناطق واسعة في إدلب، ثم سعيها لتقديم صورة أكثر براغماتية والتواصل مع الغرب، تعكس تعقيدات الصراع السوري وطبيعة التحالفات المتغيرة. ومع ذلك، فإن هذا المسار الحافل بالصراعات الداخلية وتصفية الخصوم، بالإضافة إلى التناقض في الخطاب والممارسة، يجعل الثقة في الهيئة مسألة معقدة ومحاطة بالشكوك، خاصة بالنسبة للمجتمعات المحلية والمراقبين الدوليين الذين يرون فيها قوة تفرض سلطتها بقوة أكثر من كونها ممثلاً حقيقياً لمشروع سياسي مستقر.
إقرأ أيضاً: شركة الراقي في إدلب: هل تؤسس هيئة تحرير الشام ذراعًا اقتصادية تحت ستار إعادة الإعمار؟