سوريا بين إعادة الهيكلة وتوازنات القوى: مشهد جديد يتشكّل بالنار والدبلوماسية
داما بوست -أسعد موسى
تتشكل في سوريا ملامح مرحلة جديدة تتقاطع فيها خطوط النار مع خرائط التفاهمات السياسية، حيث تتوالى الأحداث بوتيرة متسارعة تشير إلى أن البلاد تدخل طورًا جديدًا من إعادة الترتيب الداخلي تحت تأثير ضغوط خارجية متشابكة. فمن اشتباكات حييّ الشيخ مقصود والأشرفية في الشمال، إلى المفاوضات التي جمعت قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي ورئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، برز اتفاق غير مسبوق من نوعه يعيد خلط الأوراق السياسية والعسكرية معًا، ويطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة التغيرات المقبلة: هل بدأت سوريا السير نحو إعادة توحيد مؤسساتها، أم أننا أمام فصل جديد من لعبة النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية؟
أبرز بنود الاتفاق تمثلت في دمج قوات “قسد” ضمن الجيش السوري ككتل موحدة تتوزع على ثلاث فرق مستقلة وألوية تابعة لها، إلى جانب دمج قوات الأمن الداخلي (الآسايش) في وزارة الداخلية وتوزيعها على مختلف الأراضي السورية. هذه الخطوة التي بدت في ظاهرها إصلاحية لم تكن لتقبل بها دمشق في السابق وكانت تعتبرها خطوطاً حمراء، لكنها اليوم تعكس ميزان قوة جديد فرض نفسه على دمشق. فالقبول بهذا الدمج لم يكن خيارًا ذاتيًا بقدر ما كان استجابة لضغوط أمريكية وغربية هدفها إنهاء حالة الانقسام العسكري وتثبيت استقرارٍ هشٍّ يمهّد لحلٍّ سياسي مؤجل. ومع ذلك، يظلّ السؤال قائمًا: هل القبول بهذا الاتفاق يعكس تحولًا في قناعات دمشق، أم أنه مجرد مناورة مؤقتة لتفادي إدخال شخصية مناف طلاس إلى قلب المشهد العسكري والسياسي؟
تؤكد مصادر خاصة لـ”داما بوست” أنّ العميد مناف طلاس قام بزيارة سرّية إلى تركيا قادمًا من روسيا، في إطار اتصالات رفيعة المستوى تهدف إلى البحث عن مخرج عسكري ينهي حالة الفصائلية ويعيد تشكيل المؤسسة العسكرية على أسس وطنية جامعة. طلاس الذي ما زال يحتفظ بعلاقات متوازنة مع معظم الأطراف السورية، من العلويين غربًا إلى قسد شرقًا، حمل معه تصورًا لإعادة بناء الجيش بقيادة موحدة وبصلاحيات واسعة، وهو ما رفضته دمشق وأنقرة في آنٍ معًا. فالمفاوضات التي حضرها وزير الخارجية أسعد الشيباني انتهت إلى طريق مسدود بعد إصرار طلاس على تولّي قيادة الجيش وتشكيل جيش وطني جامع، وهو مطلب أثار حفيظة الطرفين لأسباب مختلفة؛ دمشق تخشى من أي قيادة عسكرية مستقلة قد تقيد سلطتها، وأنقرة تخشى من أن يتحول طلاس إلى لاعب يصعب ضبطه خاصة في ظل الدعم الغربي والروسي المتقاطع حول شخصه.
هذه المعادلة وضعت دمشق أمام خيار صعب: إما القبول بدمج قسد في المؤسسة العسكرية لتظهر بمظهر الدولة القادرة على التفاهم مع المكونات السورية دون وساطة، وإما مواجهة سيناريو دخول طلاس إلى المعادلة مدعومًا بإجماع دولي وإقليمي يصعب مجابهته. ويبدو أن القيادة السورية اختارت المسار الأول لتفادي المسار الثاني، لا سيما أن طلاس يتمتع بقبول دولي وشعبي متزايد، إضافة إلى علاقته الشخصية الوثيقة بمظلوم عبدي، ما يجعله مرشحًا محتملاً لقيادة مرحلة إعادة التوحيد الوطني.
وفي خلفية هذا المشهد، تبرز موسكو كلاعبٍ يسعى لضبط الإيقاع دون أن يخسر أحد الأطراف. فالمعلومات التي حصلت عليها “داما بوست” تشير إلى أن روسيا تمارس ضغوطًا لفرض ترتيبات جديدة في الساحل السوري تضمن حماية قواعدها العسكرية واستقرار نفوذها في المنطقة. وقد طالبت القيادة الروسية بإعادة ضباط من النظام السابق ممن تثق بهم إلى مواقع حساسة في الساحل، للمشاركة في تشكيل نواة جديدة للجيش السوري، لكن هذا المقترح لم يلقَ قبولًا لدى دمشق أو لدى الفصائل الحليفة لها. ومع ذلك، تميل موسكو إلى خيار تكليف مناف طلاس بهذه المهمة الحساسة، لما يتمتع به من خبرة عسكرية وعلاقات متينة مع الضباط العلويين بحكم خلفيته العائلية، إذ كان والده مصطفى طلاس أحد أبرز رجالات النظام السابق وأكثرهم قربًا من دوائر القرار في العقود الماضية.
في المقابل، لم تتأخر تركيا في الرد. فبينما كانت دمشق تضع توقيعها على الاتفاق مع قسد، كانت أنقرة تضع توقيعها على اتفاقٍ موازٍ مع دمشق يقضي بتوسيع نطاق اتفاقية أضنة القديمة والسماح للقوات التركية بالتوغل حتى عمق ثلاثين كيلومترًا داخل الأراضي السورية، بعد أن كانت المسافة المحددة في الاتفاق الأصلي لا تتجاوز خمسة كيلومترات. هذا التطور إذا ما ترجم على أرض الواقع يعني فعليًا إعادة رسم خرائط النفوذ في الشمال السوري على نحوٍ يخدم الأمن القومي التركي من جهة، ويضغط على قسد من جهة أخرى. ومعه تجد قسد نفسها أمام معادلة معقدة: فهي من جهة أصبحت جزءًا من المؤسسة العسكرية السورية، ومن جهة ثانية تواجه تصعيدًا تركيًا متجددًا قد يدفعها إلى إعادة حساباتها مجددًا.
ولا تبدو “إسرائيل” بعيدة عن هذه المعادلات. فأنقرة طالما حذّرت من تمدد النفوذ الإسرائيلي في سوريا واعتبرته خطًا أحمر قد يبرر تصعيدًا عسكريًا جديدًا. في المقابل، تراقب “تل أبيب” المشهد السوري بقلق خشية أن تؤدي أي صيغة جديدة للجيش السوري الموحّد إلى إعادة بناء القدرات العسكرية للدولة السورية وتهديد ميزان الردع في الجنوب. هذه التداخلات الإقليمية تجعل من الملف السوري ساحةً مفتوحة لتقاطع المصالح والصراعات، حيث كل خطوة عسكرية أو سياسية في دمشق أو أنقرة أو موسكو أو واشنطن تحمل في طياتها رسائل مبطنة، “إسرائيل” ليست ببعيدة عنها.
المشهد السوري الراهن إذًا لا يمكن قراءته بمعزل عن حسابات القوى الكبرى. فدمشق التي وجدت نفسها أمام معادلات جديدة تحاول المناورة للحفاظ على موقعها ضمن التوازنات الدولية، بينما تسعى واشنطن إلى فرض تسوية جزئية تخدم استراتيجيتها في شرق الفرات، وتواصل موسكو ترتيب أوراقها بما يضمن بقاء نفوذها العسكري والسياسي، وتعمل أنقرة على تثبيت وجودها شمالًا بذريعة الأمن القومي. في خضم هذه المعادلات، يظهر أن ما يُرسم في الكواليس ليس مجرد اتفاقات مرحلية، بل مشروع لإعادة هيكلة سوريا سياسياً وعسكرياً وفق توازن جديد بين الداخل والخارج.
إن اتفاق دمشق وقسد، وعودة اسم مناف طلاس إلى التداول، وتوسيع اتفاقية أضنة، ليست سوى إشارات أولى على تحوّلٍ أعمق لم تتضح ملامحه النهائية بعد. فالأيام المقبلة قد تحمل مؤشرات حقيقية على تحول نظام سوريا الجديد، قائم على توزيع النفوذ بين مراكز القوة المحلية والدولية، لكنها أيضًا قد تفتح الباب أمام صراعاتٍ جديدة إذا فشلت الأطراف في تثبيت تفاهماتها. سوريا اليوم تقف على حافة تسوية لم تتبلور بعد، بين إرادة الداخل ومشاريع الخارج، فيما تبقى اللوحة النهائية مفتوحة على احتمالاتٍ شتى، قد تبدأ بالوحدة الشكلية وتنتهي بإعادة إنتاج الانقسام تحت مسمياتٍ جديدة.
إقرأ أيضاً: وجوه النظام السوري السابق تعود إلى الواجهة: صراع نفوذ جديد بعد سقوط الأسد
إقرأ أيضاً: الحكومة الانتقالية وقسد: تفاهمات أولية بشأن الاندماج العسكري وتحديات اللامركزية