مشافي سوريا: انهيار الطبابة المجانية وتحوّل المشافي إلى هياكل مفرغة

داما بوست -خاص

انهيار منظومة المشافي الحكومية في سوريا:

لطالما شكّلت المشافي الحكومية في سوريا العمود الفقري للقطاع الصحي، مستندةً إلى شبكة خدمات مجانية شملت ملايين المواطنين لعقود طويلة. كانت تلك المنظومة الطبية الحكومية واحدة من أبرز إنجازات الدولة السورية، تقدّم الرعاية الصحية للمواطنين بلا مقابل، في وقت لم تكن فيه الدولة تملك مصادر مالية واسعة، ما جعل هذه الخدمات محطة أمل لكل مريض في البلاد.
لكن مع سقوط نظام الأسد، دخلت منظومة المشافي الحكومية في حالة من الفوضى العارمة، دفعت البنية الصحية إلى الانهيار المتسارع.

تدهورت البنية التحتية للمشافي بشكل مخيف، هاجرت بعض الكوادر الطبية (إضافة إلى الكوادر التي هاجرت خلال الحرب)، نُهبت المعدات الطبية الحديثة، وغيبت الرقابة والتنسيق، لتحل الفوضى محل النظام، ويفقد القطاع الصحي صموده وفاعليته، ليصبح ظلاً لما كان عليه.

منابر الطب المجاني تتحول إلى هياكل فارغة:

من بين النماذج الأكثر تعبيرًا عن هذا الانهيار، يبرز مشفى المواساة في دمشق. كان هذا المشفى، وحتى خلال الحرب، صرحًا طبيًا متكاملاً يقدم خدمات متطورة ومعقدة، ويستقبل  المرضى سنويًا من مختلف المحافظات السورية.
في السابق، كان المواساة مقصداً رئيسيًا للمرضى، يتوفر فيه كل ما يلزم من طواقم طبية مؤهلة، تجهيزات وأجهزة متقدمة تسمح بإجراء عمليات دقيقة وفحوصات متنوعة. لكن اليوم، يكاد المشفى يقتصر على تقديم سرير للمريض فقط، دون علاج فعلي.
يقول أحد الأطباء العاملين في المشفى الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية لشبكة “داما بوست”: “لم نعد نمتلك حتى أبسط المعدات لتحليل الدم. كثير من الأقسام أصبحت مغلقة أو تحت سيطرة جهات غير طبية، ما أفسد عملنا تمامًا.”
يضيف الطبيب، الذي بدا عليه التعب والإحباط: “المشفى الذي كان يومًا مرجعًا طبيًا مجانيًا، أصبح اليوم مجرد مبنى فارغ، لا يحمي المرضى ولا يفي بحاجة بلد بحاجة ماسّة إلى الرعاية الصحية.”

طبيب آخر أكد لنا أن مشاكل الكادر الطبي ليست فقط في المعدات، بل في افتقاد الموارد الأساسية التي تسمح  بتقديم علاج مجاني. المرضى أصبحوا يتحملون التكاليف كاملة، وهذا عبء كبير على العائلات التي تعاني أصلاً من الحرب والدمار.”

مشفى الأطفال: انهيار تدريجي في قلب العاصمة:

قصة مشفى الأطفال في دمشق تمثل نموذجًا أكثر قسوة. فالمشفى يخدم فئة حساسة وهشة من المجتمع، الأطفال المرضى، الذين يحتاجون إلى عناية طبية متخصصة وحساسة.

نهاية المجانية: المرضى يُحوّلون إلى السوق السوداء الطبية:

بحسب شهادات حصل عليها فريق تحقيق “داما بوست”، لم تتبقَ من مجانية الرعاية سوى الإقامة في الغرف، بينما أصبحت الأدوية، التحاليل، صور الرنين، وحتى الحقن البسيطة خارج الخدمة المجانية، وتُشترى من خارج المشفى بأسعار باهظة.
يقول والد أحد الأطفال المرضى: “اضطررت لاستدانة مبلغ كبير لإجراء صورة رنين لطفلي في مركز خاص. أخبروني أن جهاز المشفى معطل منذ أشهر لم يعد هناك دواء مجاني، كل شيء علينا شراءه من خارج المشفى.”
هذه الشهادة تلخص مأساة كثير من العائلات التي باتت لا تملك خيارات علاجية حقيقية داخل المشافي الحكومية.

كوادر طبية مفقودة وخدمات إسعافية غير متوفرة:

المشكلة لا تتوقف عند نقص الأجهزة فقط، بل تتعداه إلى نقص في الكوادر الطبية الأساسية.
في قسم الحواضن، حيث يرقد الأطفال الخدج والمرضى حديثي الولادة، يعمل ثلاث ممرضات فقط، في حين أن الحد الأدنى المطلوب هو ضعف هذا العدد فالوضع الصحي في هذا القسم يبرز مدى الانهيار الذي وصل إليه النظام الصحي، حيث الموظفون يكافحون لتقديم أقل قدر ممكن من الرعاية، بينما الموارد تتلاشى.

تمييز طائفي: إدارة تتعامل بـ”الهوية” لا بالكفاءة:

الأمر الأكثر إيلامًا في المشفى هو ما روته بعض المصادر الصبية عن ممارسات طائفية ومناطقية، لا تقتصر على توزيع التعيينات فقط، بل تتعدى ذلك إلى الإساءة اللفظية والتعامل بسوء مع بعض الكوادر.
أحد المصادر، الذي فضل عدم ذكر اسمه، قال: “بعض الممرضات يتعرضن لإهانات لفظية متكررة، وهناك تعيينات تتم على أساس الولاء والطائفة وليس الكفاءة. هذا يخلق بيئة عمل سامة ويقوّض الرعاية.”
وأضاف: هذه الممارسات ليست فقط انتهاكًا لحقوق العاملين في القطاع الصحي، بل تؤثر بشكل مباشر على جودة الرعاية المقدمة للمرضى.

انهيار الثقة والرقابة في إجازة مفتوحة:

الأخطر من كل ذلك هو أن إدارة المشفى تلتزم الصمت تجاه هذه المشاكل. الشكاوى التي يُقدمها العاملون والمرضى تُقابل بالتجاهل أو التهديد.
تلوذ الجهات الرسمية، كوزارة الصحة ونقابة الأطباء، بالصمت، وكأن ما يحدث في هذه المرافق لا يعنيها.
يقول طبيب أطفال عمل لسنوات في المشفى: “نحن نعمل دون حماية، دون معدات، ودون دعم. الناس تلومنا، لكن الحقيقة أن النظام الصحي بأكمله ينهار فوق رؤوسنا.”

مشفى تشرين العسكري: صرح طبي عسكري يُمحى من الذاكرة:

لطالما اعتُبر مشفى تشرين العسكري واحدًا من أبرز الصروح الطبية في سوريا، حيث قدّم لعقود خدمات طبية مجانية للعسكريين وعائلاتهم، كما استفاد منه المدنيون من خلال خدمات بأسعار رمزية.
امتاز المشفى بتجهيزاته الحديثة وكادره الطبي المختص، ما جعله مركزًا مرجعيًا في منظومة الرعاية الصحية العسكرية. لكن كل شيء تغيّر مع سقوط النظام السوري.
في خضم الفوضى التي أعقبت الانهيار، تعرّض المشفى لواحدة من أكبر عمليات التخريب والنهب في تاريخه، حيث تم تفريغ المشفى بالكامل من معداته الطبية، التي نُقلت إلى “جهات مجهولة”، بينما تُرك المبنى فارغًا، كأنما محوٌ متعمد لذاكرة مؤسسة كاملة.
لم تتوقف الكارثة عند المعدات، فقد طال الإهمال والتهميش الكادر الطبي نفسه.
أكد أحد الأطباء السابقين في المشفى، الذي رفض الكشف عن هويته لأسباب أمنية، أن جميع الأطباء والممرضين العسكريين لم يحصلوا حتى الآن على أي اعتراف رسمي بشهاداتهم، ولا يُسمح لهم بممارسة المهنة في المؤسسات المدنية. بل إن معظمهم لا يمتلكون حتى هويات مدنية قانونية، ما يحرمهم من العمل ويقذف بهم في دوائر التهميش والنسيان.

مشفى تلو الآخر… هل بدأ انهيار مجانية الطبابة بالكامل؟

الأزمة ليست حكرًا على المشافي الثلاثة السابقة، بل هي ظاهرة تتكرر في عشرات المشافي والمراكز الصحية في مختلف أنحاء البلاد.
شهادات من مدن أخرى تؤكد:
1- تحويل مشافٍ إلى مراكز أمنية أو مقار لفصائل مسلّحة.
2- بيع أجهزة طبية في السوق السوداء.
3- تعيينات إدارية على أساس الولاء السياسي والطائفي.
4- مراكز طبية بلا أطباء، ومرضى يُتركون لمصيرهم.
شهادات من قلب المعاناة: “لم نعد نملك علاجًا مجانيًا”
في ظل هذا الانهيار، لم تعد مجانية الطبابة سوى ذكرى بعيدة، والمرضى وأسرهم يكافحون يوميًا لتأمين أبسط العلاجات..”

حين تُغلق أبواب الرعاية… من يضمن الحياة؟

في بلد مثخن بالحرب والانهيار الاقتصادي، يصبح انهيار المنظومة الصحية أكثر من مجرد أزمة قطاعية، بل كارثة إنسانية متفاقمة، خصوصًا حين يكون الضحايا أطفالًا ومرضى لا حيلة لهم.
أمام هذا المشهد، يبرز السؤال الأكثر إلحاحًا: من يحاسب؟ من يُعيد الاعتبار للمشافي؟ ومن يحمي المرضى من موت مؤجل باسم “الواقع الراهن”؟

إقرأ أيضاً: مصادر طبية لداما بوست: نقص حاد في الدم يهدد حياة المئات في سوريا

إقرأ أيضاً: انهيار وشيك للقطاع الصحي في سوريا وسط تراجع التمويل وتحذيرات أممية

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.