الجنوب السوري: انهيار الحوكمة المائية وتحوّل الماء إلى أداة نفوذ
لم تعد الأزمة في الجنوب السوري محصورة في أبعادها العسكرية أو السياسية، بل تحوّلت إلى معركة على أحد أكثر عناصر البقاء حساسية: الماء.
فالمنطقة الممتدة من جبل الشيخ إلى درعا والقنيطرة تمثل الحوض المائي الأهم في بلاد الشام، حيث تتدفق منها روافد بانياس والحاصباني والدان لتصب في نهر الأردن، الشريان الحيوي لكل من سوريا والأردن وفلسطين.
لكن احتلال “إسرائيل” لجولان وجبل الشيخ منذ عام 1967 منحت تل أبيب تحكماً شبه مطلق في منابع هذه الأنهار، وهو تحكم لا يقوم فقط على اعتبارات أمنية، بل على “عقيدة توراتية” تعتبر جبل الشيخ “عيون الأمة اليهودية”.
هذه السيطرة المائية، التي تمتد من الثلوج الذائبة إلى الطبقات الجوفية، منحت الاحتلال الاسرائيلي تفوقاً استراتيجياً مزمناً في مواجهة دول الجوار، إذ باتت قادرة على إدارة تدفقات المياه وتعديلها بما يخدم احتياجاتها الزراعية والاقتصادية، ما جعل الجنوب السوري أرضاً للنفوذ من المنبع لا مجرد جبهة عسكرية.
الضمّ المائي الصامت
خلال العقد الأخير، انتقلت “إسرائيل” من السيطرة الميدانية إلى ما يمكن تسميته بـ”الضمّ الصامت” أو الاستعمار المائي الخفي، من خلال التوسع في حفر الآبار العميقة واستنزاف الطبقات الجوفية المشتركة على طول خط وقف إطلاق النار.
ففي السنوات السابقة للحرب، كان نظام الأسد يحاول تعزيز سيادته المائية في القنيطرة عبر إنشاء سدود صغيرة في مناطق بير عجم وكودنة ورويحينة ووادي الرقّاد، بهدف دعم الزراعة وتجسيد مفهوم “الصمود الوطني”.
لكن هذه المشاريع تضررت بفعل الحرب وتراجع الدولة، لتتحول إلى فراغ مائي استغلته تل أبيب عبر مقاولين وشركات تعمل تحت غطاء مشاريع “إنسانية” أو “زراعية”.
تقوم هذه الشركات بحفر آبار مزودة بحساسات مراقبة ذكية وأنظمة ضخ متقدمة قرب الحميدية، ما يسمح بجمع البيانات الهيدرولوجية والتحكم بمنسوب المياه، في إطار ما يسميه الخبراء “الضم العمودي”، أي السيطرة على المياه من تحت الأرض، لا على الأرض نفسها.
إنه احتلال بطيء عبر الأنابيب، يغير خرائط النفوذ دون إطلاق رصاصة واحدة.
الهندسة المائية كأداة أمن قومي
رغم التقدم الكبير الذي حققته “إسرائيل” في تحلية المياه وإعادة تدويرها — إذ توفر هذه التقنيات أكثر من نصف مياه الشرب لديها — فإنها لا تزال ترى في السيطرة على المنابع السورية ضرورة استراتيجية.
فبحسب “وزارة حماية البيئة الإسرائيلية”، يبلغ استهلاك إسرائيل السنوي للمياه نحو 2.3 مليار متر مكعب، نصفها تقريباً يذهب للزراعة، فيما يُتوقع أن يتضاعف الطلب ليصل إلى 5 مليارات متر مكعب بحلول منتصف القرن مع زيادة النمو السكاني والصناعي.
هذه المعادلة تجعل من منابع المياه في جبل الشيخ وحوض اليرموك رصيداً أمنياً لا غنى عنه، إذ توفر لإسرائيل هامشاً وقائياً ضد الجفاف والاضطرابات السياسية.
ومع امتلاكها بيانات دقيقة عن التدفقات وجودة المياه ومعدلات التغذية الجوفية، باتت تملك أداة تفاوضية قوية في أي حوار مائي مع الأردن أو سوريا، بحيث تحدد بنفسها “شروط الندرة” وكيفية توزيعها.
ووفق تحليلات خبراء الطاقة والمياه، فإن “السيطرة الإسرائيلية” على هذه الموارد تحولت إلى ذراع دبلوماسية تمتد من حوض اليرموك شمالاً حتى الخليج العربي جنوباً، حيث تصدّر تل أبيب اليوم تكنولوجيا التحلية والإدارة الذكية للمياه إلى دول خليجية مثل السعودية والإمارات، ما يجعلها جزءاً من شبكة إقليمية للتحكم في تدفقات المياه والطاقة معاً.
التبعية الإقليمية ومعادلة النفوذ
“الاقتصاد المائي الإسرائيلي” يقوم على مبدأ “الأمن عبر التقنية”، إذ تعيد “إسرائيل” تدوير نحو 773 مليون متر مكعب من المياه سنوياً وتنتج أكثر من نصف مياه الشرب عبر التحلية.
لكن هذا التوازن يبقى هشاً، لأن هذه التقنيات تعتمد على استقرار الطاقة والبنى الساحلية، ما يجعل إسرائيل في حاجة دائمة إلى موارد طبيعية خارج حدودها، وعلى رأسها الأحواض الجوفية والأنهار السورية والأردنية.
وبينما تمنح مشاريع التحلية تل أبيب اكتفاءً مادياً، فإن السيطرة على المنابع السورية تمنحها قوة سياسية، لأنها تستطيع أن تقرر من يحصل على الماء ومتى، خاصة في ظل اعتماد الأردن والسلطة الفلسطينية على إمدادات مائية إسرائيلية تقدّر بـ 140 مليون متر مكعب سنوياً.
هكذا تتحول المياه إلى أداة نفوذ إقليمي، يُدار بها التوازن لا بالاتفاقيات، بل عبر الأنابيب والمضخات.
من الأمن إلى الهيمنة
بعد عام 2024، شهد الجنوب السوري تصعيداً نوعياً في النشاط الإسرائيلي، إذ باتت المياه جزءاً من العقيدة الأمنية.
فحول سدود المنطرة ورويحينة وكودنة أقيمت مواقع عسكرية ودوريات مراقبة، كما نُشرت أنظمة استشعار لرصد التدفقات وربطها بالشبكات الأمنية الإسرائيلية.
بذلك تحولت المياه إلى شكل من أشكال الاستخبارات البيئية، تُستخدم لضبط الحدود ومنع أي طرف سوري أو إقليمي من إعادة بناء منظومة مائية مستقلة.
وتوضح تقارير ميدانية أن “إسرائيل”، عبر تحكمها في روافد القنيطرة وجبل الشيخ، تدير عملياً نظاماً بيئياً عابراً للحدود يمتد من الجولان إلى الخليج، ما يرسخ ما يمكن تسميته بـ”الهيمنة المائية” (Water Hegemony) — وهي القدرة على تحديد من يملك الماء، وكيف ومتى يُستخدم.
جنوب سوريا بعد سقوط الأسد
منذ سقوط النظام السوري أواخر عام 2024، دخل الجنوب مرحلة فراغ إداري كامل.
تفككت وزارة الموارد المائية وهيئات السدود والري، وتوقفت مؤسسة الإسكان العسكرية عن العمل، ما أدى إلى انهيار البنية التحتية المائية بالكامل.
وفي محافظة القنيطرة، خرجت ستة سدود رئيسة (المنطرة، رويحينة، بريقة، كودنة، الهجة، الحيران، والمقرز) عن الخدمة، بعد نهب معداتها وتوقف أنظمة المراقبة.
ملأت الفصائل المحلية هذا الفراغ بإدارة عشوائية للمياه، قبل أن تتدخل “إسرائيل” وتفرض سيطرة مباشرة على معظم هذه السدود، مقيمة قواعد ومخيمات أمنية في محيطها.
ومنذ مطلع عام 2025، سُجّل تراجع في تدفق نهر الرقّاد وروافده بنسبة تفوق 30 في المئة، مع جفاف ملحوظ في عدد من الخزانات، نتيجة الضخ العشوائي والتحويل الهندسي الإسرائيلي.
إلى جانب ذلك، تعمل شركات إسرائيلية عبر وسطاء مدنيين أو منظمات غير حكومية على ترميم بعض الآبار المتضررة، ما يمنحها نفوذاً تقنياً مباشراً داخل الأراضي السورية.
وتشير البيانات الحديثة إلى أن إسرائيل تنتج حالياً أكثر من 600 مليون متر مكعب من المياه المحلّاة سنوياً، مقابل احتياطي لا يتجاوز 70 مليون متر مكعب في القنيطرة، معظمها غير صالح للاستخدام.
بهذا الواقع، تحولت الحدود الجنوبية من خط عسكري إلى خط مائي فعلي، يرسّخ الهيمنة الإسرائيلية ويعمّق تفكك الدولة السورية، التي لم تعد تملك سيطرة على أكثر مواردها حيويةً: الماء.
اقرأ أيضاً:توغل إسرائيلي في ريف درعا ورفض شعبي لمساعدات في القنيطرة