الأزمة المعيشية في سوريا: ارتفاع الأسعار يبتلع الرواتب ويعمّق الفجوة الاجتماعية

في أحد محالّ ضواحي دمشق، يقف أبو محمد، ناطور في مبنى قيد الإنشاء، منتظرًا دوره لشراء حاجيات أسرته. يسأل عن الزيت والسكر والأرز، لكنه في النهاية يكتفي بكيلو لبن واحد. يقول بحسرة: “راتبي ما زاد ليرة واحدة، لكن الأسعار صارت خيالية. حتى أبسط احتياجات الأولاد صارت رفاهية.”

هذا المشهد البسيط يلخص المأزق المعيشي المتفاقم في سوريا، حيث قفزت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، دون أي تحسن يُذكر في الدخل، لتتسع الفجوة بين ما يجنيه المواطن وما يُطلب منه إنفاقه من أجل البقاء.

ارتفاع الأسعار دون زيادة الدخل: معادلة غير متكافئة:

تشير البيانات إلى أن زيادات الرواتب الحكومية الأخيرة لم تواكب تضخم الأسعار، بينما بقي العاملون في القطاع الخاص أو الأعمال الحرة دون أي تحسين في الأجور. وتشكل هذه الفئة نحو 85% من القوة العاملة السورية، ما يعني أن معظم السوريين يعيشون اليوم دون حماية مالية حقيقية.

وفي المقابل، تواصل الحكومة نهجها الاقتصادي القائم على رفع الدعم تدريجيًا مقابل تحسين محدود في الدخل، وهي سياسة تهدف إلى ضبط العجز المالي لكنها تتجاهل أثرها الاجتماعي العميق. فرفع الأسعار في ظل اقتصاد هشّ وبنية سوق غير متوازنة لا يؤدي إلى إصلاح، بل إلى تعميق الفوارق الطبقية وإعادة توزيع الدخل نحو الأعلى.

الكهرباء مثال صارخ على عبء الغلاء:

أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو رفع تعرفة الكهرباء بنسب كبيرة. وعلى الرغم من تبرير الحكومة بأن الأسعار “لا تزال مدعومة”، إلا أن الأثر على الأسر كان قاسيًا.

ووفق دراسة لرجل الأعمال فيصل العطري، فإن فاتورة الكهرباء تلتهم نحو 39% من راتب الموظف المتوسط.

لكن المشكلة أوسع من رواتب الموظفين، فهناك ملايين العاطلين عن العمل أو العاملين بأجور غير مستقرة، ممن خرجوا تمامًا من الحسابات الرسمية. وتشير التقديرات إلى أن معدل البطالة في سوريا تجاوز 50% من إجمالي القوى العاملة، مقارنة بنحو 23% فقط في عام 2023، وهو ما يفسر هشاشة السوق وتراجع القدرة الشرائية.

تراجع الأمن الغذائي وتآكل رأس المال الصغير:

تؤكد تقارير رسمية أن أقل من 10% من الأسر السورية قادرة على تأمين احتياجاتها الغذائية بشكل مستدام، فيما يعاني الباقون من درجات متفاوتة من فقدان الأمن الغذائي.

وقد دفع الغلاء كثيراً من الأسر إلى بيع أدوات الإنتاج الصغيرة مثل ماكينات الخياطة والمعدات الزراعية أو الدراجات، لتأمين احتياجاتها اليومية، ما يعكس تآكل رأس المال المنزلي والإنتاجي لدى الطبقات الفقيرة.

ويقول فادي، موظف في إحدى المؤسسات العامة: “كل أسبوع نعيد حساب كل شيء من جديد. الزيادة بالراتب ما بتكفي حتى منتصف الشهر.”

دوامة التضخم: من رفع الأسعار إلى الغلاء المتسلسل:

رفع أسعار السلع والخدمات الأساسية لا يقتصر أثره على الفقراء فقط، بل يؤدي إلى تسلسل تضخمي واسع. فالتجار والمنتجون يعيدون تسعير بضائعهم فوراً بناءً على توقعات الغلاء، حتى قبل أن تتأثر كلفة إنتاجهم فعلياً، لتتحول الأسواق إلى دوامة من الأسعار المتدحرجة.

ويشير خبراء الاقتصاد إلى أن البديل الممكن كان يتمثل في تحسين البيئة الإنتاجية أولاً، وخلق فرص عمل جديدة عبر دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ثم تقديم دعم نقدي مباشر للفئات الأضعف قبل رفع الدعم العام.

اقتصاد بلا استهلاك.. مجتمع بلا إنتاج:

تحذّر دراسات اقتصادية من أن المجتمع الذي يفقد قدرته على الاستهلاك يفقد بالتبعية قدرته على الإنتاج، ما يهدد دورة الاقتصاد بأكملها.

ويؤدي الاستمرار في السياسات الحالية إلى إعادة إنتاج الاقتصاد الريعي بشكل جديد، حيث تتكدّس الثروة في أيدي القادرين على الوصول إلى الموارد والأسواق، بينما يُترك معظم المواطنين في الهامش.

خلاصة:

تؤكد الأزمة المعيشية الحالية أن الإصلاح الاقتصادي في سوريا لا يمكن أن يُقاس بالأرقام المالية فقط، بل بمدى قدرته على خلق توازن بين العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.

وحتى يتحقق ذلك، هل ستراجع الحكومة سياساتها المالية قبل أن يتحول الغلاء إلى أزمة اجتماعية شاملة تهدد استقرار البلاد؟

 

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.