حدود سوريا–لبنان الممزقة: قراءة جيوسياسية لمعابر النفوذ
بين لبنان وسوريا، لا ترسم الحدود بالمسطرة بل تُنحت بالدم والتاريخ والأساطير، وتتقاطع الجغرافيا مع الفلسفة، وتتشابك السياسة مع الجراح المفتوحة، وكل خلاف ليس مجرد نزاع على أرض، بل ارتجاج في خرائط ذهنية صاغتها حروب قديمة وحديثة، فخط حدود يتحول إلى شقّ في الذاكرة، وأي خلاف يصبح مرآة لصراع أعمق من الأرض نفسها، بحسب موقع سوريا الغد.
مسرح بلا خطوط واضحة
حين تفشل الجغرافيا في رسم حدود قاطعة، تبدأ المجازر برسمها، ففي بقاع يتداخل فيها العرق والدين والتاريخ، مثل منطقة البقاع–حمص، تصبح القرى كـ”حوش السيد علي” و”القصير” أكثر من مجرد نقاط على الخارطة؛ إنها استعارات لولاءات متقاطعة، هنا لا توجد دولة واحدة، بل مشاريع دول تتصارع عبر الميليشيات والألغام، أرض تُروى بالدم لا بالماء.
في 8 كانون الأول 2024، ومع انهيار النظام السوري، انفجر الفراغ الجيوسياسي، فهيئة تحرير الشام، التي لا تدّعي الوراثة بل المشروع البديل، صعدت بسرعة، وأعادت رسم خرائط السيطرة وأعلنت نيتها حماية الحدود، لكنها لم تكن فقط تغيّر السلطة، بل تعيد تعريف ما تعنيه الحدود ذاتها؛ لا خطوط دولية بل حدود أيديولوجية، بين مشروع إسلامي ومشروع قومي متآكل.
الحدود كاقتصاد ظلّ مسلّح
بين 6 شباط و15 نيسان 2025، لم تعد الحدود مجرّد معابر بل تحوّلت إلى شرايين ملوّثة تُغذّي اقتصاداً غير رسمي من سلاح وعبور مقاتلين، إلا أن الاشتباكات لم تندلع عشوائيا، بل تركزت في ممرات محددة بين البقاع وريف حمص — حيث يتقاطع النفوذ العسكري السوري مع مصالح هيئة تحرير الشام وشبكات قبلية عابرة للحدود، فهذه المناطق لم تحتمل التعايش بين الأجهزة الرسمية واللاعبين غير النظاميين، فانفجرت المواجهات، خصوصا حين حاولت الدولة السورية فرض سيطرة فعلية.
في المقابل، بقيت المعابر غير الشرعية جنوبا من سرغايا مرورا بجبال القلمون وحتى أطراف الزبداني هادئة نسبيا رغم نشاط التهريب المستمر فيها؛ والسبب ليس غياب الجريمة بل وجود توازن مصالح غير معلن حيث تتقاطع طرق التهريب مع شبكات محسوبة على أطراف خارج الحسابات الخاصة بدمشق، ما يجعلها خارج مرمى التصعيد الفوري، هذه المناطق تخضع لما يمكن وصفه بـ”التفاهم المسلح”، حيث يُدار التهريب بقدر من التنسيق مع السلطات على الجانبين، بما لا يهدد البنية السياسية التي تمسك بالأمن والاقتصاد معا.
الاشتباك ليس انعكاسا لحجم التهريب بل لغياب التفاهمات، حين تتنازع الدولة والميليشيات والمجتمع المحلي على نقطة عبور واحدة، وتتحوّل الأرض إلى جبهة، أما حين تتقاطع المصالح، فالهدوء مجرد قشرة رقيقة فوق نار لا تطفأ.

من الأمن إلى الشرعية
دمشق الجديدة، على أنقاض البعث، لا تسعى فقط إلى الانتصار العسكري، بل إلى الاعتراف، فألغام على الحدود، ونقاط مراقبة، وممرات مغلقة، وهذه ليست إجراءات تكتيكية، بل لغة سياسية تُخاطب بها الداخل والخارج، والسعودية دخلت على الخط لتجميد التصعيد، لكن اللعبة كانت أكبر، فمن يملك تعريف الحدود، يملك معنى الدولة.
كان التدخل اللبناني تصعيدا سياسيا بلباس عسكري، فلم تكن مجرد ضربات مدفعية، بل إعلان هوية، لبنان الرسمي أراد أن يقول إن بيروت لا تزال حاضرة، وإن جيشها ليس مجرد كيان رمزي، فإسقاط طائرات مسيّرة سورية لم يكن صدفة، بل رسالة، أما واشنطن فقرأت الرسالة جيدا وأرسلت دعما مشروطا: لا استقرار دون كبح حزب الله.
“إسرائيل” تراقب وتضرب
كظلّ دائم في كل صراع حدودي، لم تتأخر “إسرائيل” عن الدخول على الخط، عبر غارات جوية مركّزة استهدفت ما زعمت أنه شحنات سلاح موجهة لحزب الله، وهذه الضربات لم تكن طارئة أو خارجة عن السياق، بل جزءا من معادلة الردع المتحركة، وبالنسبة لتل أبيب، أي تحوّل ميداني يمكّن الحزب من تعزيز قدراته الصاروخية أو توسيع شبكة تهريبه عبر الحدود السورية–اللبنانية، يُعد تهديدا وجوديا يجب بتره قبل أن يتجذّر، فهي تبني خطوطا حمراء وتفرضها بالنار.
لا يُقرأ الهدوء الجزئي كمرحلة استقرار بل كـ”وقت مستقطع” في مباراة إقليمية طويلة النفس، فكل ضربة “إسرائيلية” رسالة مشفّرة: لا توازن قوى جديدة يُرسم دون موافقة “إسرائيل”، ولا مساحات آمنة لحزب الله تحت مظلّة انهيار الدولة السورية، واللعبة لا تزال مفتوحة، والحدود الجنوبية لسوريا هي الآن ساحة اختبار لحدود “القبول الإسرائيلي” لأي معادلة جديدة في الشمال اللبناني.
الطائفية تطفو مجددًا
حين دخل مقاتلو هيئة تحرير الشام إلى المناطق السنية القريبة من الحدود، لم يكن الدخول عسكريا فحسب، بل كان محمّلا برمزية أيديولوجية وحسابات انتقام طائفي، فما بدأ بانتشار أمني سرعان ما تحول إلى تطهيرمعكوس، فمساجد شيعية أُغلقت أو حُوّلت إلى مراكز تعبئة، وعائلات هجّرت من قراها بتهمة الولاء للنظام أو التعاون مع حزب الله، وارتفعت أعمدة الدخان في بلدات كانت حتى الأمس القريب مختلطة، وفي آذار، عبرت موجات من النازحين العلويين إلى لبنان، حاملين معهم سرديات الانكسار والاضطهاد، في مشهد استدعى إلى الذاكرة بدايات الحرب السورية عام 2011.
الصراع الذي بدا في ظاهره نزاعا على الأرض أو السيطرة الأمنية، انكشف سريعا كمعركة على الهوية الجماعية، حيث يُعاد ترسيم الانتماءات بالمحرقة لا بالمصالح، وفي تلك القرى الحدودية، لم يعد الانتماء الجغرافي كافيا، وكان لا بد من إعلان الولاء أو تحمّل العواقب، وهيئة تحرير الشام، في سعيها لترسيخ منطقة نفوذ متجانسة مذهبيا، فالحرب هنا، كما في جولات سابقة، لا تقاتل فقط من أجل الأرض، بل من أجل سردية من ينتمي إليها.
التهدئة: مناورة أم فرصة؟
في 17 مارس، جاءت الوساطة الثلاثية (سعودية، إيرانية، أمريكية) بوقف لإطلاق النار، لكن الهدوء لا يعني سلاما، فالطرق البديلة لا تزال مفتوحة، والدولة غائبة في أكثر من نقطة، ولا يزال القرويون يواجهون الألغام، والخوف من المجهول أكبر من الأعداء.
إن هذا الصراع لا علاقة له بالأسد أو حزب الله وحدهم، بل بعقلية ما بعد–إمبراطورية، ففي بلدين لم يقررا يوما حدودا نهائية، يصبح النزاع دائما، فالمشكلة ليست في خارطة ممزقة بل في غياب مشروع دولة، فليس هناك جغرافيا واضحة، بل خطوط تتشكل بالدم.
جغرافيا اللا سلام
هل نحن أمام نهاية دورة صراع أم بداية مرحلة جديدة؟ التهدئة ربما تصمد، لكن الجمر تحت الرماد، الحدود لا تزال رخوة، والدولتان تتأرجحان بين الماضي والمستقبل، وكل متر من “حوش السيد علي” ليس فقط حقل ألغام، بل مرآة لصراع أكبر: بين المركز والهامش، بين الدولة والقبيلة، بين السيادة والتبعية.
في النهاية، لا سلام بدون تعريف واضح للحدود، وهوية سياسية قادرة على الصمود، وحتى ذلك الحين، ستبقى الجغرافيا سببا ومسرحا وأداةً في صراع لم ينتهِ بعد.
إقرأ أيضاً: بدعم أممي لبنان يمنح السوريين العائدين إلى بلدهم مبلغاً مالياً
إقرأ أيضاً: دمشق تصعّد: ملف الموقوفين السوريين في لبنان خط أحمر