صناعة الموبيليا في ريف دمشق تبحث عن هوية جديدة

بعد أكثر من عقدٍ من الدمار والتوقف شبه الكامل، تعود صناعة الموبيليا في ريف دمشق لتُعيد رسم ملامحها وسط واقع اقتصادي متقلّب وتحديات معقدة. فبين الورش الصغيرة التي أعادت فتح أبوابها في عربين وداريا، والمصانع التي تحاول النهوض من تحت الركام، تتشكل ملامح صناعةٍ تحاول البقاء، رغم غياب الكهرباء، وارتفاع أسعار الأخشاب، وتقلّص الأيدي العاملة.

صناعة تنهض رغم الركام

لطالما كانت محافظة ريف دمشق أحد المراكز الصناعية الأهم في سوريا قبل عام 2011، إذ شكّلت ورش النجارة وصناعة الأثاث الدمشقي علامة فارقة في الإنتاج المحلي. إلا أن سنوات الحرب وما رافقها من دمار للبنية التحتية وتهجير للعمال والحرفيين، أدت إلى انهيار شبه كامل لهذا القطاع الحيوي.

اليوم، ومع تحسن نسبي في الظروف الأمنية والإدارية، تحاول بعض الورش الصغيرة إعادة تشغيل خطوط الإنتاج ولو بشكل محدود. وتبرز عربين وداريا كنموذجين لهذه العودة، حيث يعمل الحرفيون على استثمار ما تبقى من إمكانياتهم لمواصلة المهنة التي كانت يوماً من رموز المهارة السورية.

يقول سامر الطير، صاحب ورشة موبيليا في عربين، إنه يعمل في المهنة منذ أكثر من عشرين عاماً، موضحاً أن الورش تعتمد بشكل شبه كامل على الأخشاب المستوردة من روسيا عبر مرافئ طرطوس وحلب. ويشير إلى أن “أسعار الأخشاب شهدت قفزات كبيرة؛ فمتر الخشب السويدي وصل إلى نحو 800 دولار، والسنديان إلى 1600، بينما الزان يقارب 750 دولاراً”.

ويضيف الطير: “غرفة النوم تحتاج اليوم إلى نحو 15 يوماً من العمل، بكلفة 1200 دولار، وتُباع بنحو 1500 فقط. ومع ذلك، نكاد لا نحقق أي ربح بسبب ارتفاع تكاليف الكهرباء والمواد الأولية”.

الكهرباء النظامية شبه غائبة، كما يقول، ما يدفع الورش للاعتماد على مولدات “الأمبيرات”، التي تكلفه نحو 800 ألف ليرة شهرياً، لتضاف هذه الفاتورة إلى سلسلة الأعباء التي تتحملها المهنة.

نقص الأيدي العاملة وتراجع الطلب

لا تقتصر التحديات على الطاقة فقط، إذ تواجه المهنة نقصاً حاداً في العمالة، مع عزوف الشباب عن تعلمها بسبب ضعف الأجور وهجرة الكفاءات.
يقول محمود خولاني، صاحب محل مفروشات في داريا، إن “المهنة فقدت كثيراً من حرفييها. الأجور منخفضة، والطلب في السوق المحلية محدود جداً، يقتصر على الضروريات فقط دون الكماليات”.

ويضيف أن “الورشة كانت تشغّل قبل الحرب عشرة عمال، اليوم بالكاد نجد ثلاثة”، مؤكداً أن “استمرار المهنة يحتاج دعماً حقيقياً وليس شعارات”.

الاستيراد والاحتكار.. أزمة مزدوجة

يؤكد عبدو العلدوني، صاحب مصنع للأثاث في عربين، أن فتح باب الاستيراد منذ عام 2024 أدى إلى ركود كبير في السوق المحلية، بعدما امتلأت المستودعات بالأثاث الجاهز والمستورد.
ويقول: “الأثاث المستورد يعتمد على الشكل الخارجي فقط، وجودته لا تتجاوز 40% مقارنة بالمنتجات المحلية. بين عامي 2018 وسقوط النظام السابق، كانت دورة الإنتاج كلها تتم داخل عربين، من النجار إلى الدهان إلى البلاط، لكن بعد الاستيراد تراجعت العجلة الإنتاجية.”

ويشير العلدوني إلى أن 90% من الورش تعتمد على الأمبيرات بتكلفة تصل إلى ستة ملايين ليرة شهرياً، داعياً إلى تحسين الكهرباء الحكومية التي “يمكن أن تخفّض كلفة الإنتاج بمقدار دولار أو أكثر للقطعة الواحدة.”

ويحذر من أن ارتفاع أجور العمال من 300 إلى نحو 700 دولار شهرياً يهدد استمرار العمل، خاصة مع تزايد احتمالات استقطاب العمال المهرة من قبل شركات أجنبية في مرحلة إعادة الإعمار.

ويضيف الحرفي سامر الطير أن “الاحتكار في سوق الخشب يضرب المهنة من الداخل، إذ لا يوجد سوى مستورد واحد يتحكم بالأنواع والأسعار. نطالب بفتح باب المنافسة في استيراد المواد الأولية فقط، ومنع استيراد الأثاث الجاهز الذي يخنق الإنتاج المحلي.”

تطور في التقنيات.. وحرفة تقاوم

رغم كل الصعوبات، تسعى الورش إلى التطوير عبر إدخال التكنولوجيا في التصنيع.
يقول الطير: “نستخدم مزيجاً من الحفر اليدوي وآلات CNC الحديثة، ما يختصر الوقت والجهد. لكن الزبون غالباً يبحث عن الأرخص، ولا يدرك أن انخفاض السعر يعني استخدام مواد مغشوشة تقلل من عمر القطعة.”

وتتراوح أسعار غرف النوم، بحسب الجودة، بين 650 و3000 دولار، في حين يبلغ سعر الباب ما بين 25 و50 دولاراً. وتشير تقديرات الحرفيين إلى أن الكلفة تنخفض بنسبة 25% في حال توفر الكهرباء النظامية بانتظام.

إرث ثقافي واقتصادي يحتاج إلى إنقاذ

الخبير الاقتصادي إبراهيم نافع قوشجي يرى أن الحرف اليدوية السورية، وخصوصاً صناعة الأثاث الدمشقي، كانت في الخمسينيات والستينيات من ركائز الاقتصاد والثقافة في البلاد، وكانت تُصدَّر إلى الخليج ولبنان وشمال إفريقيا وحتى أوروبا.

ويقول قوشجي إن “الأثاث الدمشقي لم يكن مجرد منتج استهلاكي، بل تحفة فنية تمثل الهوية السورية”. لكنه يحذر من أن “سوء التنظيم وغياب الحماية القانونية وتراجع الطلب المحلي أدت إلى انكماش القطاع وهجرة المهارات”.

ويقترح الخبير خطوات للنهوض مجدداً، أبرزها دعم وتمويل الحرفيين، وإنشاء مناطق صناعية حِرَفية مجهزة، وتعزيز الحماية القانونية للمنتجات المحلية، ودمج الحرف في السياحة الثقافية.

منافسة غير عادلة ودعوات للدعم

من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي محمد السلوم أن الصناعة المحلية تواجه منافسة غير عادلة من البضائع المستوردة، خاصة من الصين وتركيا، موضحاً أن انخفاض تكاليف التصنيع في الخارج يقابله ارتفاع كبير في الكلفة المحلية.

ويضيف السلوم: “الشرائح ذات الدخل المحدود لم تعد قادرة على شراء الأثاث المحلي، الذي بات يستهدف الطبقة المتوسطة وما فوقها. المطلوب هو تحسين القدرة الشرائية، وتحديث الإنتاج لتقليل التكاليف، مع حملات ترويج تبرز جودة الموبيليا السورية.”

كما دعا إلى تطوير القطاع عبر التركيز على المنتجات الفريدة ذات الطابع الحرفي، وتوفير التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تشكل نواة الصناعة الوطنية.

رؤية حكومية لدعم الصناعة

بدورها، تؤكد الحكومة أن دعم الصناعة المحلية يشكّل أولوية في المرحلة الانتقالية.
يقول محمد ياسين حورية، معاون وزير الاقتصاد والصناعة، إن الوزارة تعمل على تمكين الصناعة المحلية وتوفير احتياجاتها الأساسية، موضحاً أن “الإعفاء من الرسوم الجمركية شمل عدداً من الآلات المستخدمة في صناعة الأثاث الخشبي”.

وأشار حورية إلى منح 17 ترخيصاً صناعياً في مجال الموبيليا بالمدينة الصناعية في عدرا منذ “تحرير” المنطقة، في مؤشر على عودة النشاط الصناعي تدريجياً.

كما أكد أن الوزارة تعمل على خفض تكاليف الطاقة، مشيراً إلى تخفيض سعر الكيلو واط الصناعي إلى نحو 1700 ليرة سورية، أي ما يعادل 15 سنتاً أميركياً، مع إعفاء الفواتير من الضرائب والرسوم المضافة.

وفيما يتعلق بتنظيم المهنة، أوضح حورية أن الوزارة تدرس تعديل البلاغ رقم 10 لتسوية أوضاع الورش العاملة خارج المدن الصناعية، وتسهيل حصولها على تراخيص قانونية.

كما يجري العمل على تشكيل هيئة دعم المنتج المحلي لدراسة طلبات الصناعيين واقتراح إجراءات لحماية الإنتاج الوطني من المنافسة الخارجية عبر تعديل الرسوم الجمركية على المواد الأولية والسلع الجاهزة.

بين الواقع والرؤية

بين جهود الحرفيين في عربين وداريا، والرؤية الحكومية للنهوض بالقطاع، يبقى الفارق بين الواقع والطموح واضحاً. فالكهرباء باهظة، والعمالة نادرة، والاحتكار مستمر، في وقتٍ يرى فيه الصناعيون أن الدعم الحكومي ما زال دون المستوى المطلوب.

وبينما تُبذل محاولات لإعادة الاعتبار للأثاث الدمشقي كرمزٍ للمهارة السورية، لا تزال المهنة تصارع من أجل البقاء، على أمل أن تستعيد في المستقبل مكانتها القديمة كأحد أعمدة الاقتصاد والإبداع في سوريا.

اقرأ أيضاً:أزمة النفايات تتعمق في حلب.. وسط واقع معيشي متدهور

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.