جدل مطار المزة.. هل تخطط واشنطن لإقامة قاعدة جوية قرب دمشق؟

تسبّب التقرير الذي نشرته وكالة “رويترز” قبل أيام، والذي أشار إلى نية الولايات المتحدة إنشاء قاعدة جوية في دمشق اعتماداً على ستة مصادر مطلعة، في إثارة موجة واسعة من التساؤلات والجدل بين النفي الرسمي والتكهنات الشعبية، وسط غموضٍ يلفّ موقع القاعدة المحتمل وأسباب إنشائها.

وبينما نفى “مصدر مسؤول” في وزارة الخارجية السورية صحة التقرير، واصفاً ما ورد فيه بأنه “مزاعم لا أساس لها”، فإنّ اللغة الدقيقة للتقرير فتحت الباب أمام قراءات متعددة، إذ أشار إلى أن مسؤولاً أميركياً طلب حذف اسم القاعدة وموقعها من النسخة النهائية، ليبقي المحررون على عبارتين غامضتين تتحدثان عن “موقع غير محدد عند مدخل المناطق الجنوبية من سوريا”، وأن “الولايات المتحدة تستعد لترسيخ وجودها العسكري في قاعدة جوية بدمشق”.

بين الشائعات والاحتمالات

مع غياب تأكيدات رسمية، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي تكهنات حول موقع القاعدة المحتملة، ورجّح كثيرون أن تكون في مطار المزة العسكري، الواقع جنوب غربي العاصمة دمشق على بعد نحو خمسة كيلومترات من مركز المدينة.

هذا الاحتمال أثار استياءً واسعاً في الأوساط الشعبية، لاعتبارات إنسانية وتاريخية، إذ كان المطار يضم في زمن النظام السابق معتقلاً سيئ الصيت يتألف من ثلاثة سجون، يُعتقد أن في محيطه مقابر جماعية لمعتقلين قضوا تحت التعذيب. كما أن قرب المطار من مناطق شهدت أعنف العمليات العسكرية في الحرب السورية، مثل داريا والمعضمية، جعل من فكرة تحويله إلى قاعدة أجنبية مسألة رمزية حساسة.

وفي المقابل، تناول بعض النشطاء الموضوع بطابع ساخر، متحدثين عن ارتفاع محتمل في أسعار العقارات والأراضي المحيطة بالمطار في حال ثبُتت صحة الأنباء، وعن تعويضات مالية قد تدفعها الحكومة أو الجانب الأميركي للأهالي.

تسريبات عسكرية ومواقع بديلة

في موازاة النفي الرسمي، نقل موقع تلفزيون سوريا عن مصدر في وزارة الدفاع السورية تسريبات تشير إلى مواقع أخرى محتملة لتعزيز الوجود الأميركي في البلاد، من بينها مطار خلخلة العسكري بريف السويداء، واللواء 29 نقل جوي داخل مطار دمشق الدولي جنوب شرقي العاصمة، ومطار الثعلة العسكري غرب السويداء، إضافة إلى اللواء 15 شمالي درعا.

وأكد المصدر ذاته أن مطار المزة مستبعد تماماً لإقامة أي قاعدة أميركية، مرجعاً ذلك إلى اعتبارات السيادة من جهة، وإلى أن إقامة نقطة في الجنوب السوري ستكون أكثر فائدة استراتيجياً لضمان الاستقرار على الحدود، وربطاً بالاتفاقات الأمنية في محافظة السويداء.

مطار بلي.. الموقع الأرجح

وبينما تتباين الآراء حول الموقع النهائي، يرى الخبير العسكري العقيد عبد الجبار العكيدي أن الاحتمال الأكبر هو نقل غرفة عمليات التحالف الدولي من مناطق الجزيرة إلى الجنوب السوري، بحيث يكون الوجود الأميركي “شرعياً” وبالتنسيق مع الحكومة الانتقالية.

ويشير العكيدي إلى أن مطار بلي، الواقع على بعد نحو 45 كيلومتراً جنوب العاصمة دمشق، هو المرشح الأبرز لهذه المهمة، مشيراً إلى أنه يضم مهبطاً جوياً قديماً كان يستخدم لهبوط طائرات “ميغ 23” و”سوخوي 22”.
ويرى العكيدي أن خلخلة والثعلة هما أيضاً خياران محتملان، بحكم جاهزيتهما الفنية واللوجستية، إلا أنهما يحتاجان إلى صيانة وتحديث.

ويستبعد الخبير أن تُستخدم الألوية العسكرية مثل “اللواء 29” أو “اللواء 15” لهذا الغرض، لأن تلك المواقع تفتقر إلى مدارج الإقلاع الطويلة والمعدات الجوية اللازمة، مشيراً إلى أن دورها المحتمل قد يقتصر على غرف عمليات أو نقاط مراقبة وتنسيق.

نقطة لوجستية لا قاعدة جوية

من جانبه، يرى الباحث في الشؤون العسكرية عمار فرهود أن ما يجري تداوله حول “قاعدة جوية” قد يكون مبالغاً فيه، مرجحاً أن الحديث يدور في الواقع عن نقطة تخديم لوجستية أو مركز ارتباط أميركي – سوري لتنفيذ عمليات محددة.

ويوضح فرهود أن مثل هذه النقاط “تُستخدم لتنفيذ مهام تكتيكية، مثل هبوط الطائرات القادمة من قاعدة التنف، لتنفيذ عملية في الداخل السوري، ثم العودة مجدداً”، مشيراً إلى أن “هذا لا يُعدّ قاعدة جوية بالمعنى العسكري الكامل”.

ويضيف أن البيئة الأمنية في قلب العاصمة دمشق لا تسمح بإنشاء قاعدة جوية أجنبية، نظراً لاحتمال استهدافها وما قد يسببه ذلك من زعزعة أمن العاصمة واستقرارها.

كما لفت إلى أن المنطقة تعجّ أصلاً بمواقع وقواعد قريبة قابلة للاستخدام مثل قاعدة الأزرق في الأردن، والتنف في الشرق السوري، وعين الأسد في العراق، والقواعد التركية والإسرائيلية، ما يجعل إنشاء قاعدة جديدة “خارج المنطق العسكري” في هذه المرحلة.

تحركات “ملحوظة” في مطار المزة

في الأيام الأخيرة، رُصد نشاط غير معتاد داخل مطار المزة تمثّل بهبوط وإقلاع عدد من الطائرات العسكرية، ما غذّى التكهنات حول وجود ترتيبات ميدانية.

لكن مصدر في وزارة الدفاع السورية أكد أن هذا النشاط مرتبط حصراً باستقبال وفود دبلوماسية وعسكرية، نافياً أي علاقة له بإنشاء قاعدة.

وفي السياق نفسه، قال الباحث عمار فرهود إن “هبوط طائرة واحدة أو أكثر لا يُعد دليلاً على تحويل المطار إلى قاعدة”، موضحاً أن معظم الرحلات الأخيرة كانت لوفود كردية دبلوماسية وصلت إلى دمشق، وأن اختيار مطار المزة يأتي ببساطة لأنه الأقرب إلى مركز العاصمة.

السيادة السورية بين الواقع والمفهوم

يثير الحديث عن وجود أميركي في العاصمة أو محيطها تساؤلات حول حدود السيادة السورية في المرحلة الراهنة، خصوصاً في ظل التحولات العسكرية والسياسية بعد سقوط النظام السابق.

ويشير الباحث السياسي مالك الحافظ إلى أن الوجود الأميركي – في حال تحقّق – لا يعني بالضرورة انتقاص السيادة الوطنية بالكامل، لكنه يفرض قيوداً وظيفية على بعض القطاعات مثل الحركة الجوية والاستخباراتية، ما يخلق بنية حكم “مركبة”.

ويقول الحافظ إن واشنطن في هذه الحالة “تعمل وفق نموذج إدارة المخاطر لا إعادة تشكيل الدولة”، أي أنها تسعى لامتلاك أدوات مراقبة وتأثير، لا فرض نفوذ شامل.

وفي المقابل، يرى الباحث العسكري ضياء قدور أن الحديث عن “سلب السيادة” مبالغ فيه، موضحاً أن سوريا الخارجة من عقد من الحرب والانقسام الجغرافي بحاجة إلى “شراكات مؤسسية” لإعادة بناء الثقة الدولية.
ويضيف أن وجوداً أميركياً “منسّقاً مع الحكومة الانتقالية” قد يُنظر إليه كـ انتصار رمزي على المدى القريب، لأنه يكرّس علاقة رسمية بين دمشق وواشنطن بدلاً من التدخلات غير المباشرة السابقة.

إعادة تموضع لا احتلال

تتزامن الأنباء حول إنشاء قاعدة أو مركز أميركي مع تحركات ميدانية متزايدة للولايات المتحدة في سوريا، ضمن ما يصفه مراقبون بأنه إعادة تموضع عسكري وسياسي بعد انحسار النفوذ الإيراني والروسي في البلاد.

ويؤكد الباحث مالك الحافظ أن هذا الوجود – أياً كان حجمه – قد يساهم في تقليص التوترات الداخلية، وخلق بيئة أمنية أكثر استقراراً على المدى القصير، لكنه في الوقت نفسه “يغيّر موازين القوة تدريجياً تبعاً لطبيعة الوجود: فغرفة عمليات صغيرة تعني تأثيراً محدوداً، أما قاعدة جوية متكاملة فستعني نفوذاً أوسع على المجال الجوي والسياسي معاً”.

ومع استمرار التكتم من الجانبين الأميركي والسوري، تبقى طبيعة الوجود الأميركي في العاصمة أو محيطها سؤالاً مفتوحاً، يعكس في جوهره ملامح المرحلة الانتقالية في سوريا، وتوازناتها الجديدة بين القوى الدولية، على وقع تفاوض طويل حول السيادة، الأمن، والشرعية المستقبلية للدولة السورية.

اقرأ أيضاً:التايمز: ترامب واستقبال الجهادي السابق في سوريا.. فرصة لصفقة سلام أم تحديات سياسية؟

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.