الدروس الخصوصية في سوريا.. تعليم موازٍ يكشف عمق الأزمة المعيشية

لم تعد الدروس الخصوصية في سوريا مجرّد وسيلة لتحسين التحصيل الدراسي، بل تحوّلت إلى ظاهرة واسعة تعكس عمق الأزمة الاقتصادية وتدهور التعليم الحكومي. فمع انهيار القدرة الشرائية وتدنّي رواتب المعلمين إلى مستويات غير مسبوقة، نشأت سوق تعليمية موازية يديرها أساتذة يبحثون عن موردٍ إضافي للبقاء، بينما يجد الأهالي أنفسهم أمام عبءٍ ماليّ يثقل كاهلهم ويجعل التعليم عبئاً جديداً بعد السكن والغذاء.

تعليم رسمي يتراجع.. وسوق موازية تتمدّد

خلال السنوات الأخيرة، شهد قطاع التعليم في سوريا تحوّلاً لافتاً. فقد اتسع نطاق الدروس الخصوصية ليشمل مختلف المراحل، من التعليم الأساسي حتى الشهادة الثانوية، مع تراجع ملموس في مستوى المدارس الحكومية وضعف في الأداء التربوي. ومع هذا الانحدار، برزت شبكة غير رسمية من المعاهد الخاصة والمدرسين الذين يقدّمون خدماتهم خارج الإطار القانوني، في محاولة لتعويض ضعف الدخل.

ورغم أن القوانين السورية تمنع المدرّس الموظف في وزارة التربية من إعطاء دروس خاصة خارج دوامه الرسمي، فإن هذا المنع بقي حبراً على ورق، في ظل ضعف الرقابة وغياب البدائل الاقتصادية. فالمعلم الذي يُفترض أن يكون عماد العملية التعليمية، أصبح مضطراً لتجاوز القانون كي يؤمّن لقمة العيش.

المعلم بين الالتزام والاضطرار

يقول محمود الملا، مدرس لغة إنكليزية منذ أكثر من خمسة عشر عاماً في دمشق، إن التعليم الرسمي لم يعد قادراً على تأمين الحد الأدنى من احتياجات المعلّم. ويضيف: “أدرّس في المدرسة صباحاً، وفي المساء أعطي دروساً خصوصية لا لأنّي أحب ذلك، بل لأن الراتب الحكومي لا يكفيني أسبوعاً واحداً. نحن نعمل لنتعيّش لا لنعلم.”

ويشير الملا إلى أن بعض المعلمين باتوا يروّجون لدروسهم داخل الصفوف، ويعرضون على الطلاب التسجيل في معاهد يعملون بها بعد الدوام. “المدرسة صارت مكاناً للترويج أكثر من كونها مكاناً للتعليم، والطالب يعرف أن الشرح الحقيقي يأتي في الدرس الخاص، لا في الحصة الرسمية”، يقول الملا.

وبحسب ما وثّقه موقع الحل نت، فإن عدداً متزايداً من المدرّسين باتوا يتعاونون مع معاهد خاصة تفتقر للرقابة التربوية. وتُمنح هذه المعاهد تراخيص تحت بند “معهد لغات”، لكنها تعمل فعلياً كمراكز للتدريب على المناهج الدراسية، منتشرة في المدن والبلدات وحتى في الأرياف.

الأهالي بين الحاجة والعجز

في المقابل، يجد الأهالي أنفسهم أمام خيار صعب: إما الرضوخ لتراجع مستوى التعليم الحكومي، أو اللجوء إلى الدروس الخصوصية بكلفة تتجاوز طاقتهم.
تقول هالة عباس، وهي أم لثلاثة طلاب من مراحل مختلفة: “صرنا ندفع شهرياً للدروس الخصوصية مثل إيجار البيت. ما في تعليم فعلي بالمدارس، والمدرسين نفسهم بيقولوا للطلاب يلتحقوا معهم بالدروس الخاصة. الطالب يلي ما بيدرس خصوصي ما بينجح.”

وتضيف: “التعليم صار للأغنياء فقط. أقل أستاذ بياخد 20 ألف ليرة بالساعة، والله حرام.”

هذا الواقع يضع الأسر محدودة الدخل أمام ضغطٍ متزايد بين الرغبة في تأمين مستقبل أبنائها والخوف من العجز المالي، فيما تتحول المدرسة الرسمية إلى مجرد محطة شكلية في المسار الدراسي للطلاب.

طلاب بلا ثقة بالمدرسة

يصف حسن الحسن، طالب في الصف الثالث الثانوي من سكان المزة، مدرسته بأنها “مبنى بلا تعليم”. ويقول إن أغلب زملائه يعتمدون كلياً على الدروس الخاصة للتحضير للشهادة الثانوية. “الأستاذ ما بيشرح بالمدرسة مثل ما بيشرح بالدرس الخصوصي، بيقولنا إن الشرح التفصيلي رح نعمله برّا. صرنا نحس إن المدرسة بس شكل.”

ويؤكد حسن أن بعض الأساتذة يتعمّدون ترك الدروس ناقصة داخل الصف لخلق دافع لدى الطلاب للالتحاق بدروسهم خارج المدرسة، في ظل غياب أي رقابة أو محاسبة فعلية.

وجه جديد للتفاوت الطبقي

تقول ليلى المصري، ناشطة اجتماعية وأم لطفلين في المرحلة الإعدادية، إن الدروس الخصوصية باتت أحد أبرز مظاهر التفاوت الطبقي الجديد في سوريا. “ما عادت وسيلة دعم للطالب، صارت مظهر من مظاهر الطبقة الجديدة. في طلاب فرصهم أكبر لأن أهلهم قادرين يدفعوا، وطلاب عم يخسروا مستقبلهم لأنهم ما بيقدروا.”

وترى المصري أن المشكلة تتجاوز الجانب القانوني أو الأخلاقي، فهي تمس مبدأ تكافؤ الفرص ذاته. “عندما يروّج المعلم لدروسه داخل المدرسة، ينهار الأساس الأخلاقي للتعليم. ما عاد في مساواة، والمدرسة الرسمية صارت إعلان مجاني للدروس الخصوصية.”

وتشدد على أن الحل لا يكون بالمنع فقط، بل بإعادة الثقة بالمدارس الحكومية ورفع رواتب المعلمين ومراقبة الأداء التربوي: “الرقابة ضرورية، لكن الأهم هو تأمين حياة كريمة للمدرس حتى ما يضطر يبيع علمه.”

أزمة تتجاوز التعليم

في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وغياب الإصلاح في قطاع التعليم، يبدو أن ظاهرة الدروس الخصوصية لن تتراجع قريباً. فالقوانين لا تُطبّق، والرقابة شبه غائبة، والمدرسة الرسمية تفقد تدريجياً دورها الأساسي كمؤسسة للتعليم العام.

بينما تواصل السوق التعليمية الموازية توسّعها، يتحوّل التعليم في سوريا إلى سلعةٍ تُشترى وتُباع، تُقاس فيها فرص النجاح بقدرة العائلة على الدفع لا على كفاءة الطالب.

اقرأ أيضاً:“آيريكس دمشق”.. مستقبل الاستثمار العقاري وإعادة الإعمار في سوريا

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.