اللامركزية في سوريا: فرصة للاستقرار أم خطر على البلاد؟

بينما تدخل سوريا مرحلة سياسية انتقالية بعد سقوط نظام بشار الأسد، تعود قضية مستقبل الحكم إلى الواجهة بقوة، وعلى رأسها سؤال اللامركزية: هل تمثل هذه الصيغة فرصة لإرساء الاستقرار والشراكة السياسية، أم أنها وصفة قد تفتح الباب أمام الانقسام والتفكك؟

إرث المركزية الممتد لعقود

منذ عهد حافظ الأسد عام 1971، كرّست الدولة السورية نموذجاً شديد المركزية، حيث أُخضعت جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والمالية لدمشق، وأُضعفت صلاحيات المجالس المحلية التي تحولت إلى أذرع تابعة للسلطة. ومع وصول بشار الأسد عام 2000، تعمقت المركزية أكثر رغم محاولات إصلاح محدودة، وهو ما ساهم في تأجيج الانتفاضة عام 2011.

محاولات شكلية للامركزية

في خضم النزاع، أقر النظام عام 2011 قانون الإدارة المحلية رقم 107، كما تضمن دستور 2012 إشارات لمبدأ “اللامركزية الإدارية”. لكن هذه الخطوات بقيت شكلية.

جذور تاريخية وتجارب حديثة

فكرة اللامركزية ليست جديدة على سوريا؛ دستور عام 1920 نص على تقسيم البلاد إلى مقاطعات تتمتع باستقلال ذاتي نسبي وبرلمانات محلية. لكن مع الانتداب الفرنسي، رسّخت سياسات التقسيم الطائفي الانقسامات، قبل أن يفرض حزب البعث لاحقاً نموذج الدولة الموحدة والمركزية.
في المقابل، أفرزت سنوات الحرب منذ 2011 نماذج بديلة للحكم المحلي: من المجالس المدنية في مناطق المعارضة، إلى الإدارة الذاتية التي أسسها الكرد في شمال شرقي سوريا عام 2014، والتي توسعت لاحقاً لتدير نحو ثلث الأراضي السورية.

الكرد والأقليات: اللامركزية كضمانة

يعتبر الكرد، الذين يشكلون نحو 15% من سكان البلاد، من أبرز المطالبين باللامركزية، باعتبارها حلاً تاريخياً للتهميش ومظلة لضمان الحقوق الثقافية والسياسية. كما تبنت الإدارة الذاتية سياسات تمثيلية مثل الرئاسة المشتركة والاعتراف باللغات الثلاث (العربية، الكردية، السريانية).
لكن الكرد ليسوا وحدهم؛ فالمجتمع الدرزي مثلاً رفع مطالب صريحة بالحكم الذاتي بعد سقوط الأسد، معتبرين أنه حماية للأقليات في ظل تصاعد نفوذ جماعات إسلامية في المشهد الجديد. وحتى قطاعات واسعة من العرب السنّة، الذين تحملت مناطقهم العبء الأكبر من التدمير، باتت ترى في اللامركزية فرصة لتأمين مشاركة عادلة في إعادة الإعمار والتنمية.

المخاوف من التفكك

رغم هذه الدعوات، ثمة هواجس عميقة داخل النخب السياسية والاجتماعية في دمشق ومدن أخرى من أن تتحول اللامركزية إلى مدخل للتقسيم، خصوصاً إذا ارتبطت بمطالب إثنية أو طائفية. هذه المخاوف غذتها عقود من الخطاب السياسي والإعلامي الذي ربط أي صيغة لا مركزية بالانفصال.

بين واشنطن ودمشق: اللامركزية كورقة سياسية

ترى تقارير دولية أن الولايات المتحدة تملك اليوم فرصة فريدة للتأثير في شكل الحكم السوري، خصوصاً مع الانفتاح النسبي على دمشق ورفع بعض العقوبات. ويرى محللون أن دعم واشنطن لخيارات لامركزية، عبر تمويل المجالس المحلية وتعزيز قدراتها.
لكن في المقابل، تحذر أصوات سورية من أن تُستغل هذه القضية كورقة ضغط خارجية، مؤكدة أن تحديد مستقبل الحكم يجب أن يتم عبر توافق وطني جامع، بعيداً عن الضغوط الإقليمية والدولية.

نحو إطار متوازن

الحل المطروح من جانب كثير من الباحثين هو صيغة “لامركزية متوازنة”: أي تمكين المجالس المحلية من إدارة شؤونها الاقتصادية والخدمية، مقابل احتفاظ الحكومة المركزية بالملفات السيادية كالخارجية والدفاع والمالية. مثل هذا الإطار يمكن أن يعزز المحاسبة والتمثيل، مع الحفاظ على وحدة البلاد.

خاتمة

بعد أكثر من عقد من الحرب والانقسام، تبدو سوريا أمام مفترق طرق. اللامركزية لم تعد مجرد فكرة سياسية، بل مطلباً يتردد على ألسنة مكونات عديدة، من الكرد والدروز إلى قطاعات عربية واسعة. وبين فرص تعزيز الشراكة الوطنية ومخاطر التشرذم، يظل السؤال مفتوحاً: هل تكون اللامركزية طوق نجاة لسوريا، أم بداية لتفككها؟

اقرأ أيضاً:الشيخ غزال غزال يدعو إلى الفدرالية واللامركزية لحماية الطائفة

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

 

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.