مسيحيو سوريا وتصاعد المخاطر الأمنية: عامٌ أول يكشف هشاشة “العيش المشترك”
بعد مرور عام على سقوط نظام بشار الأسد، تبدو “سوريا الجديدة” أبعد ما تكون عن مرحلة الاستقرار التي توقعها كثيرون. فالتغيرات السياسية والاضطرابات الأمنية التي طالت مختلف المكونات السورية كشفت عن مشهد شديد التعقيد، تتداخل فيه مخاوف الطوائف والقوميات مع مصالح القوى المحلية والإقليمية. وفي قلب هذا المشهد، برز وضع المسيحيين كأحد المؤشرات التي تعكس عمق التحديات التي ترافق المرحلة الانتقالية.
دراسة صادرة عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وتقرير بثته قناة الحرة تناولا وضع المسيحيين من زوايا متعددة، مسلطَين الضوء على الفجوة بين القبول الرسمي الذي تعلنه الحكومة الانتقالية في دمشق، وبين الواقع الأمني الذي تقول التقارير إنه يضع المسيحيين أمام مخاطر متزايدة.
قبول رسمي مقابل هشاشة أمنية
تشير دراسة “معهد واشنطن” إلى أن المسيحيين يحظون بـ“قبول رسمي” من الحكومة الانتقالية، إلا أنهم “معرضون للخطر” في ظل استمرار الهجمات التي يشنها متطرفون وجماعات مسلحة. ورغم أن هذه الحوادث لا ترقى إلى مستوى “الإبادة الجماعية” كما يروّج البعض، فإنها تشكل جزءًا من التحدي الأمني الذي يواجه الطوائف السورية كافة.
وتلفت الدراسة إلى تحوّل واضح في تعامل الحكومة الانتقالية—التي تقودها هيئة تحرير الشام/جبهة النصرة سابقاً تحت رئاسة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)—مع المجتمع المسيحي، مقارنةً بممارساتها السابقة التي تضمنت مصادرة ما لا يقل عن 550 عقاراً من منازل ومتاجر تعود لمسيحيين منذ العام 2015.
ومنذ وصول الشرع إلى السلطة، قدم وعوداً بحماية جميع المكونات، وظهر ذلك في لقائه ممثلين للطوائف المسيحية نهاية كانون الأول/ديسمبر 2024، وفي زيارته لبطريرك الروم الأرثوذكس، يوحنا العاشر يازجي، في تشرين الأول/أكتوبر، حيث جرى التأكيد المتبادل على “العهد التاريخي” لحماية الوجود المسيحي في البلاد.
هجمات متزايدة واعتداءات طائفية
ورغم هذا الانفتاح الرسمي، تعرّض المسيحيون لسلسلة هجمات خلال الأشهر الماضية. في عيد الميلاد الماضي، أقدم مقاتلون أجانب على إحراق شجرة الميلاد. وفي شباط/فبراير دُمّرت صلبان في مقبرة بريف حمص، بينما حاول مهاجمون في 6 نيسان/أبريل 2025 إشعال النيران في كنيسة بدمشق، بالتزامن مع نشر منشورات تهديد في مناطق مختلفة.
كما أعلنت “وزارة الداخلية” في الحكومة الانتقالية إحباط مخطط لتنفيذ تفجير بسيارة مفخخة ضد كنيسة في معلولا ليلة رأس السنة، بعد اعتراف عناصر من تنظيم داعش بالتخطيط للهجوم.
لكن الهجوم الأخطر وقع في 22 حزيران/يونيو الماضي، عندما استهدفت عملية انتحارية كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس في حي الدويلعة بدمشق، ما أدى إلى مقتل 25 شخصاً وإصابة 63 آخرين. وتبنت الهجوم جماعة تسمى “سرايا أنصار السنة”، ويُعتقد أنها واجهة لتنظيم داعش. ووفق الدراسة، يعد هذا الاعتداء الأكبر على مسيحيي سوريا منذ أحداث العام 1860.
أزمة ثقة مع الحكومة الانتقالية
ورغم إدانة الحكومة الانتقالية لهذه الهجمات وتشديدها الأمن حول الكنائس، فإن الدراسة تشير إلى وجود “شكوك واسعة” بين المسيحيين حول احتمال تورط دمشق بطريقة ما في هجوم كنيسة مار إلياس. وتوضح أن هذا الاتهام—رغم غياب الأدلة—يعكس أزمة ثقة بنيوية بين الأقليات والحكومة الجديدة.
وتختتم الدراسة بتحذير من أن استمرار الاستهداف قد يدفع المسيحيين إلى الهجرة على نحو مشابه لما جرى في العراق، ما يعني خسارة أحد أقدم المكونات السورية تاريخاً ووجوداً.
“الأحد الأسود” في السويداء… فصل جديد من العنف
أما تقرير “الحرة”، فيرصد نمطاً آخر من العنف تعرض له المسيحيون، لا سيما في السويداء خلال ما عُرف بـ“الأحد الأسود” في 13 تموز/يوليو الماضي. فقد شهدت المحافظة واحدة من أعنف موجات العنف الطائفي، استُهدف خلالها مسيحيون ودروز على حد سواء.
يروي شهود عيان للقناة أن مجموعات مسلحة اقتحمت منازل وطالبت السكان بـ“الشهادة على أرواحهم” قبل إطلاق النار. كما تحدثت عائلات عن جرائم قتل تمت بوحشية شديدة، من “الوريد إلى الوريد”، بحسب وصفها.
واضطر سكان قرى مثل “الصورة الكبيرة” إلى الفرار عبر أسطح المنازل هرباً من نيران القناصة وقذائف الهاون، فيما تعرضت مقابر مسيحية للنبش والعبث بجثامين الموتى، في مشاهد وُصفت بأنها “مرعبة”.
ويؤكد التقرير أن بلدات مسيحية كاملة أصبحت “غير قابلة للسكن” حتى اليوم، وأن آلافاً هُجروا إلى كنائس وممرات ضيقة بحثاً عن ملاذ آمن. وتشير التقديرات غير الرسمية إلى أن عدد المسيحيين المتبقين في السويداء لا يتجاوز 25 ألف شخص.
التمسك بالعيش المشترك رغم الألم
ورغم كل ما شهدته المنطقة، يشدد من تبقى من أبناء الطائفة المسيحية على تمسكهم بتاريخ طويل من العيش المشترك مع الدروز وبقية المكونات، مؤكدين أنهم “لم يشهدوا تعديات من الموحدين الدروز عبر التاريخ”.
ويطالب المسيحيون الحكومة الانتقالية بـ“قانون يمنع التحريض والشحن الطائفي” وبخطوات أكثر جدية لضمان أمنهم، مشيرين إلى احتمال تورط قوى خارجية في تغذية التوترات.
تحدٍّ مفتوح أمام الحكومة الانتقالية
يختتم تقرير “الحرة” بالإشارة إلى أن وقف العنف الطائفي المتنقل سيكون أحد أصعب اختبارات الحكومة الانتقالية في سوريا، وأن كثيراً من المسيحيين يرون أن السنة الأولى بعد سقوط النظام كانت “أقرب إلى الانتقامية”، وسط مخاوف من استمرار “الموت البطيء” لمكوّن كان يوماً ركناً أساسياً في النسيج السوري.