في الجزء الثالث والأخير من التشكيلات العسكرية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وبعد الحديث عن القوى الأربع الرئيسية في البلاد: القوات الحكومية، وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وجيش سوريا الحرة، وقوات الحرس الوطني في السويداء، نخصّص هذا الجزء للحديث عن التشكيلات التي تصنّف نفسها “سرّية”، والتي لا تتوافر عنها معلومات واضحة، ولا زعيم معلن، ولا منطقة جغرافية محدّدة، ولا هيكلية معروفة الأركان. بل إنه لا يوجد حتى تأكيد قاطع على حقيقة وجودها، رغم ادعائها المسؤولية عن تنفيذ بعض العمليات العسكرية. ويمكن تلخيصها بداعش، وسرايا أنصار السنّة، وجبهة المقاومة الإسلامية “أولي البأس”، ورجال النور – سرايا الجواد، وكتائب تحرير الجنوب.
أولاً: داعش
رغم المعارك الكبرى التي جرت سابقًا بين داعش وجبهة النصرة قبل تحوّل الأخيرة إلى هيئة تحرير الشام، فإن السنوات الأخيرة قبل سقوط النظام شهدت هدنة غير معلنة بين الطرفين، ولم تُسجَّل اشتباكات تُذكر. وبقي هذا التفاهم الضمني ساريًا حتى ما بعد سقوط النظام، ولم تواجه داعش الحكومةَ الجديدة. وظلّت إعلاناتها الرسمية عبر صحيفة “النبأ” تقتصر على عمليات اغتيال وتفجير ضد “قسد”، إلى أن أعلنت الحكومة الانتقالية انضمامها إلى “التحالف الدولي”، فبدأت داعش مهاجمة القوات الحكومية واصفةً إياها بـ”المرتدة”.
وفي العدد 524 من صحيفة “النبأ”، أعلنت داعش رسميًا عن أول عملية ضد “الجيش السوري الجديد”، وقالت: “قَتل جنود الخلافة بولاية الشام عنصرًا من الجيش السوري المرتد بهجوم جنوب شرق إدلب على جسر بلدة سراقب”، ونشرت الصحيفة صورة العنصر المقتول.
ويمثل هذا الإعلان نقطة تحول في مسار عمليات داعش، إذ انتقلت لأول مرة من استهداف “قسد” إلى مواجهة مباشرة مع الحكومة الانتقالية، التي نفّذت بحسب إعلانها، سلسلة عمليات أمنية ضد بؤر تنظيم داعش في مناطق متفرقة من سوريا، بعضها بالتعاون مع “التحالف الدولي”.
ثانياً: سرايا أنصار السنّة
ظهر هذا التشكيل بعد سقوط النظام، ورغم تشابهه الواضح في الشكل والخطاب والأيديولوجيا مع داعش، ودفاعه غير المباشر عنها، إلا أنه لا يقدّم نفسه كامتداد للتنظيم، بل يزعم الاستقلالية. ونشط بشكل كبير في الفترة التي تلت سقوط النظام، وأعلن تبنّيه سلسلة عمليات اغتيال وتفجير، كان أبرزها تفجير كنيسة مار إلياس في الدويلعة بريف دمشق، وهجمات في مناطق متفرقة ضد الأقليات السورية.
وترى الجماعة أن الشرع “مرتد” مثل داعش، لأنه – بحسب خطابهم – يحكم بدستور “وضعي لا يستند إلى حكم الله”، ويقيم علاقات مع الغرب وأميركا التي تصفها بـ”الكافرة”. وفي الأشهر الأخيرة تراجعت عملياتها العسكرية، واكتفت بالبيانات والدعوات عبر شرعيها العام “أبو الفتح الشامي”.
وتتطابق أيديولوجيا “أنصار السنة” مع داعش في استهداف الحكومة الانتقالية، والأقليات من العلويين والدروز والشيعة والمسيحيين والمرشدية، إلى جانب قوات “قسد”.
ثالثاً: سرايا الجواد – رجال النور
ظهرت بعد سقوط النظام وبعد مجازر الساحل السوري في آذار. وتعرّف نفسها بأنها ضد حكومة الشرع، التي تصفها بـ”الحكومة الداعشية”، كما تهاجم داعش أيضًا. ونشرت هذه الجماعة عملية عسكرية وحيدة عبر عبوة ناسفة بالصوت والصورة بتاريخ 2 أيلول/سبتمبر، ووضعتها تحت عنوان “البيان رقم 1″. ومنذ ذلك الحين، اكتفت بالبيانات والوعيد للحكومة.
وبحسب بياناتها، فهي تشكيل علوي، يزعم السعي للثأر لـ”العلويين” مما ارتكبه النظام الجديد بحقهم من مجازر.
رابعاً: المقاومة الإسلامية في سوريا – أولي البأس
تعرّف نفسها على أنها “مقاومة سورية ضد الإسرائيلي”، وتؤكد أنها لا تريد الاصطدام مع قوات الحكومة الانتقالية رغم وصفها لها بالعدو في منشوراتها. وادعت المسؤولية عن إطلاق صاروخ من درعا باتجاه الجولان السوري المحتل، وعن الاشتباك العسكري الذي وقع في بلدة كوريا بريف درعا أثناء توغّل قوة عسكرية إسرائيلية في 25 آذار/مارس.
ويتشابه شعارها الرسمي مع شعار حزب الله اللبناني إلى حد كبير، وبحسب بياناتها فهي تدافع عن الحزب وإيران وتعتبرهما “مقاومة إسلامية يجب نصرتها”. إلا أن حزب الله نفى في أكثر من مناسبة وجود أي ارتباط بينه وبين هذه الجماعة.
خامساً: كتائب تحرير الجنوب
تتشابه في نهجها مع “المقاومة الإسلامية – أولي البأس”، وتدّعي محاربة الاحتلال الإسرائيلي. وأعلنت مسؤوليتها عن المشاركة في اشتباكات بيت جن في ريف دمشق ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة في الجنوب. وترى الكتائب أن الحكومة الانتقالية “حكومة محتلة للأراضي السورية” وأنها “أداة بيد الإسرائيلي والأميركي”. وتتبع هذه الكتائب لحزب التحرّر الوطني الذي تشكّل أيضًا بعد سقوط النظام.
كما يتكرر الحديث عن وجود تشكيلات عسكرية تتبع للنظام السابق، ويُقال إن كمال حسن أو رامي مخلوف يديرانها بحسب بيانات منسوبة إليهما، أو عن قوات تتبع لسُهيل الحسن، إلا أنه لا توجد أي أدلة أو بيانات رسمية تؤكد وجودها الفعلي أو تنفيذها عمليات على الأرض، ما يبقي هذا الملف غامضًا حتى اللحظة.
تُظهر هذه التشكيلات السرّية – سواء تلك التي تنشط إعلاميًا فقط، أو التي تبنّت عمليات محدودة – حجم التعقيد الذي يواجهه المشهد الأمني في سوريا بعد سقوط النظام. فمع أن القوى العسكرية الأساسية أصبحت واضحة، إلا أن الأطراف الهامشية والمجموعات العقائدية المتشددة لا تزال قادرة على التأثير في الاستقرار الهش، سواء عبر الخطاب أو عبر العمليات التي تستغل الفراغات الأمنية.
هذا التشتت لا يعكس مجرد بقايا الصراع السوري، بل يشير إلى مرحلة جديدة تتكوّن فيها التهديدات بشكل مرن ومتحوّل، يصعب ضبطه دون بناء منظومة أمنية شاملة وواضحة، قادرة على استيعاب التنوع الاجتماعي، وتحصين الداخل، وقطع الطريق على أي تشكيلات تسعى لإعادة إنتاج العنف تحت شعارات دينية أو سياسية.
إن إحكام السيطرة على هذه الفصائل – عبر القانون والردع والمصالحة المجتمعية – سيكون اختبارًا حقيقيًا لقدرة الحكومة الانتقالية على تثبيت الأمن، ومنع عودة البلاد إلى دوائر الفوضى التي دفع السوريون أثمانًا باهظة بسببها.
إقرأ أيضاً: التشكيلات العسكرية في سوريا بعد سقوط النظام – الجزء الأول
إقرأ أيضاً: التشكيلات العسكرية في سوريا بعد سقوط النظام – الجزء الثاني