الكهرباء في دمشق بين الشموع والألواح الشمسية

تعيش دمشق منذ أسابيع على وقع أزمة كهرباء جديدة، تتجاوز حدود التقنين المعتاد لتكشف عن فجوة طبقية متزايدة بين أحياء المدينة. ففي الوقت الذي يضيء فيه سكان المناطق الراقية منازلهم بفضل الألواح الشمسية والمولدات، يعتمد آخرون في الأحياء الشعبية على الشموع أو مصابيح البطاريات، في مشهد يلخّص واقع التفاوت الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه سوريا بعد أكثر من 15 عامًا من الحرب.

في إحدى ليالي العاصمة، يظهر التناقض بوضوح: طفل يرفع شمعة صغيرة ليكمل واجبه المدرسي، بينما تلمع أسطح الأبنية المجاورة بألواح الطاقة الشمسية، والمكيفات تعمل بلا انقطاع.
الكهرباء هنا لم تعد خدمة عامة، بل رمزًا للقدرة المادية، ومعيارًا جديدًا لقياس الطبقة الاجتماعية.

واقع التقنين: الكهرباء تُقاس بالساعات

في دمشق اليوم، يُقاس اليوم بعدد ساعات التيار الكهربائي أكثر مما يُقاس بالساعات نفسها. ففي بعض الأحياء الشعبية، لا تتجاوز التغذية الكهربائية أربع ساعات يوميًا، بينما تصل في مناطق أخرى إلى ثماني ساعات متواصلة، مدعومة بالمولدات أو منظومات الطاقة البديلة.

يقول أبو محمود، صاحب محل خياطة في أحد أحياء العاصمة: “صار عندي جدول محدد للشغل. إذا إجت الكهربا ساعتين، بشغل كل الماكينات بسرعة، وبعدها بنقعد عالعتمة.”

وزارة الكهرباء تبرر استمرار التقنين بنقص الوقود والغاز لتشغيل محطات التوليد، بينما يرى الأهالي أن المشكلة أعمق، وتكمن في تدهور البنية التحتية وتأخر خطط الصيانة والإصلاح.

رفع الأسعار: كهرباء أكثر… وعبء أكبر

مع نهاية تشرين الأول 2025، أعلنت الوزارة رفع تعرفة الكهرباء بشكل ملحوظ، لتصل إلى 600 ليرة للكيلوواط للشريحة الأولى، و1400 ليرة للثانية، وحتى 1800 ليرة للمؤسسات والمصانع.

ورغم أن ساعات الوصل زادت في بعض المناطق، إلا أن كثيرين اعتبروا أن “الضوء بات مكلفًا”، إذ تحوّلت الزيادة إلى عبء مالي ثقيل.

تقول أم سليم من حي الورود: “صارت الكهربا تجي أكتر، بس كل ساعة معناها فاتورة أكبر. ما عدنا نفرح فيها، صرنا نحسبها قبل ما نشغّل شي.”

وفي بعض المدن مثل سلمية وريف حماة، خرجت احتجاجات محدودة رفعت شعار: “ندفع أكثر ونحصل أقل.”
مشهد يعكس تناقضًا بين محاولات الحكومة لتحسين الخدمة، وتراجع قدرة المواطنين على تحمّل تكلفتها.

الطاقة البديلة: حلّ للأغنياء فقط

مع تزايد الانقطاع وارتفاع الأسعار، لجأ الكثير من سكان دمشق إلى تركيب منظومات شمسية. لكن تكلفة هذه الأنظمة التي تتراوح بين 10 و14 مليون ليرة جعلت منها حلاً متاحًا للأثرياء فقط.

يقول المهندس نضال الحمصي: “الطلب على الألواح كبير، لكن السوق فوضوي. كثير من الأنظمة المعروضة رديئة أو مستعملة، والمواطن يدفع ثمن وعود غير مضمونة.”

ترافق هذا التوجه مع ازدهار سوق سوداء للمعدات، ما عمّق الفجوة بين من يستطيع تأمين طاقته ذاتيًا، ومن يبقى رهينة ساعات التقنين المحدودة.

الفجوة الكهربائية والانعكاس الاجتماعي

تحوّلت الكهرباء إلى مقياس جديد للفوارق الطبقية في العاصمة.
في الأحياء الشعبية، تُغلق المحال باكرًا، والطلاب يدرسون على ضوء الشموع. وفي المقابل، يعيش سكان الأحياء الثرية حياة شبه طبيعية، بين أجهزة التبريد والمصاعد العاملة على مدار الساعة.

الفرق لم يعد فقط في الدخل أو مستوى المعيشة، بل في عدد ساعات الضوء التي يستطيع المواطن شراؤها.

انعكاسات اقتصادية واجتماعية

أزمة الكهرباء لم تعد فنية فحسب، بل تركت آثارًا ملموسة في قطاعات عدة:

  • التعليم: الطلاب يعتمدون على ضوء النهار أو بطاريات مكلفة.

  • الأعمال الصغيرة: المقاهي والورش تعدّل ساعات التشغيل لتجنّب فواتير مرتفعة.

  • تكاليف المعيشة: المولدات والبطاريات أصبحت من ضروريات الحياة اليومية.

  • الاحتقان الشعبي: الشعور بدفع ثمن خدمة غير مستقرة يخلق استياءً واسعًا، وأحيانًا احتجاجات محدودة.

نظرة إلى المستقبل

تتحدث وزارة الكهرباء عن خطط مستقبلية تتضمن تركيب عدادات ذكية وزيادة ساعات الوصل إلى 14 ساعة يوميًا بحلول منتصف 2026، إلى جانب تشجيع الاستثمار في محطات شمسية صغيرة.

لكن خبراء يرون أن الحلول الحقيقية تبدأ من إعادة تأهيل محطات التوليد، وتحديث شبكات النقل، وضمان عدالة التوزيع، لا بمجرد تعديل الأسعار.

في نهاية المطاف، لم تعد الكهرباء في دمشق مجرّد خدمة تُقدَّم، بل مرآة لحياة السوريين في ظل الأزمة الاقتصادية الطويلة.
في مدينة يُقاس فيها الضوء بالقدرة على الدفع، أصبح حقّ الإنارة عنوانًا آخر للصراع بين الطبقات، ومرآة لبلد ما زال يبحث عن طاقته المفقودة، حرفيًا ومجازيًا.

اقرأ أيضاً:سورية والسعودية تتفقان على إنشاء محطتي كهرباء بالطاقة المتجددة

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب تويتر انستغرام

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.