تجفيف السيولة في سوريا: بين السيطرة النقدية والانهيار الاقتصادي

وقال موقع سوريا الغد إن هذه السياسة تبدو محاولة لضبط التضخم وكبح تدهور سعر صرف الليرة، لكن الواقع يُظهر أنها تلعب دورا معاكسا، فهي تفاقم الانكماش، وتضعف الدورة الاقتصادية، وتُعيد تشكيل السوق لمصلحة مراكز موازية خارجة عن سيطرة الدولة.

إقرأ أيضاً: سوريا بعد الحرب: هل بدأت المواجهة الكبرى مع أنقاض الدولة؟

تجفيف السيولة: النظرية شيء، والتطبيق شيء آخر

في المفهوم التقليدي، “تجفيف السيولة” يُستخدم لضبط المعروض النقدي حين يفوق الطلب، في محاولة لكبح جماح التضخم وتثبيت سعر الصرف. ولكن في الحالة السورية، حيث الاقتصاد في حالة ركود عميق أساسا، تتحول هذه السياسة إلى أداة خنق لا معالجة.

السلطات اعتمدت مجموعة إجراءات لتقليص الكتلة النقدية:

  • رفع الاحتياطي الإلزامي على الودائع المصرفية، ما يقلل قدرة البنوك على الإقراض.
  • تقييد عمليات السحب من البنوك إلى حدّ غير مسبوق (100 إلى 250 ألف ليرة يوميا).
  • تأخير دفع الرواتب والأجور، مما يعني تقليص السيولة المتاحة للأسر بشكل مباشر.
  • تقليص الإنفاق الحكومي الفعلي، حتى في القطاعات التي يفترض أن تحفّز النمو أو الاستقرار.

هذه السياسات أنتجت تحسنا “بصريا” في سعر الليرة لفترات قصيرة، لكنها أدّت إلى نتائج عكسية على الأرض، وتوقفت دورة المال، كما تباطأت التجارة، وأصبح السوق يعمل بطاقة منخفضة تفوق الانكماش الطبيعي.

تحسن وهمي.. وركود واقعي

مع تجفيف السيولة، بدا وكأن سعر صرف الليرة “يتحسن” مؤقتا، حيث سجلت الأسعار الرسمية ارتفاعا وهميا لقيمة الليرة مقابل الدولار (9000 ثم 10000 ليرة)، لكن هذا التحسن لم يكن مدفوعا بإنتاج حقيقي أو استقرار مالي، بل بنقص حاد في المعروض النقدي.

الفجوة بين السعر الرسمي والسوق الموازي ظلت قائمة، بل اتسعت من حيث التأثير، فبينما يُعلن البنك المركزي عن أسعار منخفضة للدولار، كانت السوق الموازية تسعّر الدولار على أساس الندرة، وترفع الكلفة الفعلية للتعامل به، ما يجعل المواطنين والتجار يعيشون في واقع مزدوج الأسعار.

السوق الموازي: مرآة السياسات المنفصلة

أحد أبرز تداعيات سياسة تجفيف السيولة هو توسيع نفوذ السوق السوداء، فحين يصبح الحصول على الليرة صعبا، يلجأ الناس إلى الدولار لحفظ القيمة، ما يزيد الطلب عليه ويقلّص المعروض منه، نتيجة ضعف التحويلات والاستيراد المقنّن.

السوق الموازي لم يعد مجرد مساحة لتجاوز القيود، بل بات منظومة:

  • هناك قوائم يومية لأسعار الدولار يتم تداولها عبر قنوات مغلقة ووسائط رقمية.
  • يتحكم بالسوق صرّافون كبار وأفراد لديهم القدرة على احتكار العرض وتنسيق الأسعار.
  • يلاحظ أن النشاط الموازي يجري أحيانا بمرأى من السلطات دون تدخل حاسم.

كلما زاد الضغط على السيولة في السوق الرسمي، زاد نشاط السوق الموازي، وهو ما يقوّض فعالية السياسة النقدية من جذورها.

المواطن هو الضحية الأولى

من يدفع الثمن؟ المواطن العادي، الذي لا يملك لا حسابات بالدولار ولا منافذ للتجارة أو التحايل:

  • تأخر صرف الرواتب يجعل الناس أمام حالة انتظار دائم للسيولة، مما يعطّل استهلاكهم.
  • حتى لو توفّرت الرواتب، فإن سقوف السحب المنخفضة تجعل من الصعب التصرف بحرية في الدخل.
  • التجار، وخاصة في القطاعات الصغيرة والمتوسطة، يضطرون إلى التسعير بالدولار، ما يُقصي شرائح واسعة من الزبائن.

القطاع الخاص أيضا يشكو من نقص السيولة في الليرة، مما يدفعه للبحث عن تمويل بديل (غالبا عبر الدولار)، وبالتالي يُعاد تسعير السلع والخدمات على أساس العملة الأجنبية، وهو ما يزيد من حدة “الدولرة” داخل الاقتصاد المحلي.

مصرف مركزي غائب.. أم مغيّب؟

في هذا السياق، يظهر دور البنك المركزي السوري كمراقب أكثر منه فاعلا، ولا توجد مؤشرات على تدخل فعلي في السوق (بيع/شراء عملات)، بل مجرد نشرات أسعار يومية تُحدث دون مرجعية فعلية، وغياب التدخل النشط من المركزي يعني:

  • لا سياسة “تعويم مُدار” حقيقية تضمن استقرارا نسبياً.
  • لا أدوات واضحة لامتصاص الصدمات أو التعامل مع التغيرات اللحظية.
  • لا شفافية حول الاحتياطيات أو قدرة الدولة على دعم العملة فعليا.

تتحول السياسة النقدية إلى مجرد بيانات دون تطبيق، فيما يستمر الاقتصاد بالتآكل.

الليرة ليست مجرد ورقة، بل علاقة ثقة

السياسات النقدية لا تُقاس بنتائجها الفورية فقط، بل بقدرتها على بناء الثقة طويلة المدى، وسوريا اليوم تتعامل مع الليرة كأداة قمع للنشاط الاقتصادي، لا كوسيلة تحفيز وازدهار.

تجفيف السيولة يُنتج لحظات استقرار مؤقت، لكنه يعمّق الاعتماد على السوق السوداء ويُفقد الدولة سلطتها المالية تدريجيا، والإصلاح يبدأ حين يُعاد لليرة دورها كوسيط تبادل حقيقي، وتُضخ السيولة في سياق إنتاجي لا تضخمي.

الحل ليس بتجفيف ما تبقّى من الدورة النقدية، بل بضخ الثقة، وتحفيز السوق، واستعادة الوظيفة الطبيعية للنقود كمحرّك لا كمكبّل.

 

إقرأ أيضاً: الاقتصاد السوري: تفاهمات بمليارات الدولارات.. متى تتحول إلى واقع؟

حساباتنا: فيسبوك  تلغرام يوتيوب

المزيد ايضا..
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.